حازم حسين

فى محبة شط العريش وليلها البديع.. عن المدينة والثقافة وأربعة أيام من البهجة الخالصة

الأحد، 28 ديسمبر 2025 02:00 م


كنت على المستوى الشخصى فى غاية الاشتياق إلى العريش، المدينة الجميلة التى لم أزرها منذ العام 2008، والشوق مُضاعف بطبيعة الحال جرّاء ما شهدته لسنوات من ماضينا القريب.

كأن الذهاب بفعالية ثقافية كبرى إلى هناك اعتذار عمّا كان، وتجديد للعهد مع المكان أولا، ثم مع أهله الذين صمدوا وثابروا وكانوا على الجبهة الأمامية فى معركة وجود حقيقية.

بذاك الواجب الذى يُحمّل كل مواطن دَينا تجاه سيناء سابقا وحاضرا، يربح مؤتمر أدباء مصر نقاطا عدّة بمجرّد الانعقاد على الساحل الشمالى الشرقى، وبغض النظر عن برنامجه الثقافى ومحتواه وتنظيمه، وأية ملاحظة يُمكن أن يُسجلها عابر أو مقيم على أمانته العامة، وعلى جهة الإدارة ممثلة فى هيئة قصور الثقافة، أو فى الوزارة باعتبارها الأصل والمظلة الكبرى.

أعرف أن الأوضاع استقرت منذ سنوات، بل عادت إلى سيرتها الأولى أو ما هو أفضل؛ لكن ذاكرة بعض الناس قد لا تعبر المحطات الصعبة بسهولة، أو يتبقى لديها من الرواسب ما يعطلها عن اختبار المستجدات.

ولهذا؛ أستحسن الاختيار من منطلق أنه تصريح بالخروج من أسر اللحظة الضاغطة، وإقبال على بناء سردية جديدة/ قديمة، تُعيد تأصيل سيناء فى الوعى الجمعى على ما كانت قبل فاصل التوتر والإزعاج، وبحيث لا تتجسد كفضاء آمن لأهله فحسب؛ ولكن كمساحة مفتوحة وقادرة على الاحتضان وتوفير الأمن لمئات من الزوار فى دفقة واحدة، وضمن سياق اجتماعى يتداخل فيه التثاقف مع التعايش والترفيه، مع اتصال عميق بالبيئة المحلية فى كل التفاصيل على مدار عدة أيام.

المؤتمر ظاهرا يبدو كفعالية نخبوية تخص نوعية من الناس تجمعهم اهتمامات واحدة؛ لكنه ينفتح على المدينة المضيفة بأنشطته وجولاته، ويسيح المشاركون فيه بين أهلها فى الشوارع وعلى المقاهى، كما تمتد الندوات والأمسيات الشعرية إلى الأطراف جغرافيا وفئويا، سواء بالوصول إلى القرى والنجوع أو مخالطة طلاب المدارس والجامعات.

والحديث ليس عن رحلة سياحية من بيئة واحدة؛ بل عن جماع من كل المحافظات والخلفيات، ما يجعل الفسحة الزمنية أقرب إلى انتقال للأماكن وتداخلها مع بعضها؛ كأن مصر بأكملها تتجمع معا فى فسيفساء واحدة، بخليط من الأرواح واللهجات والهويات الفرعية التى تصب فى نهر الهوية الجامعة.

يُرَد الفضل فى الأساس إلى اللواء خالد مجاور، محافظ شمال سيناء، على أنه رحّب منذ البداية باستضافة المؤتمر، وأتاح لقطاع أفقى من أهل الكتابة والثقافة والإعلام أن يُعاينوا فارق الواقع على الأرض، عما كانوا يسمعون به قبل سنوات أو يتلقونه من قنوات الأخبار.

وذلك قبل أن يكونوا مؤازرين وحاملين لرسالة تضامن مع بقعة عزيزة، تهددتها المخاطر فى حقبة من الزمن قبل أن تستردها سواعد الرجال بتضحياتهم الغالية، ويُثبّتوا حال الانتصار للمرة الثانية برؤية مغايرة وأكثر تقدما على طريق الإعمار والتحديث، وإدخال سيناء فى العصر بالكيفية التى يجب إن تكون عليها، كما أنها تليق بها وتتناسب مع قيمتها المادية والمعنوية على السواء.

أما عن التجربة؛ فقد كانت غير ما تصوّرته تماما، وأنا المُطّلع على المتغيرات أوّلا بأول، اتصالا بطبيعة المهنة على الأقل.

أعرف حجم النهضة التى تحققت فى كثير من جوانب التنمية ومشروعات البنية التحتية، وأتيقن من أن منسوب الأمن بدءا من الضفة الغربية للقناة وإلى أقصى الشرق فى أعلى مستوياته؛ إلا أننى لم أتخيل أن نعبر القناة من أنفاق تحيا مصر عند محافظة الإسماعيلية فى أقل من نصف الساعة إجمالا، وألا يزيد زمن الإجراءات الأمنية على عشر دقائق فقط، فى سيارة تُقل خمسين فردا بحقائبهم التى تملأ مساحة التخزين إلى آخرها.

صحيح أن الحدث معروف، وتنظمه جهة رسمية، وكل المشاركين لم يأتوا فجأة من دون علم مسبق؛ إنما سرعة الإيقاع كانت ملفتة فى كل الأحوال، وقد رأيتها تتكرر مع آخرين فى الجوار من غير المرتبطين بالمؤتمر، ومن يعبرون فى سيارات خاصة أو حافلات نقل ركاب بالأجرة.

وما كان مع القوات المسلحة عند الأنفاق، تكرر من فرق وزارة الداخلية عند نقاط الارتكاز الأمنى، وليست كثيرة العدد كما كنت أتخيل، إذ عبرنا على ثلاث منها فحسب طوال نحو 160 كيلو مترا من القنطرة شرق إلى العريش، لم نتوقف فى أى منها سوى دقائق تتناسب مع طبيعة السير وفق تخطيط المسارات والسرعة المحددة.

وحتى عندما أخطأ السائق الذى يقود القافلة، وانحرف عن الطريق المقررة لمرور حافلات المؤتمر، جرى التعامل مع الأمر بسرعة، وقادتنا إحدى سيارات الشرطة فى السكة غير المعلومة للسائقين حتى أطراف المدينة.

ولولا أن أحد الأتوبيسات تعطّل ووقفنا انتظارا له عدة مرات؛ لكانت الرحلة مثالية فى التوقيت بما لا يتجاوز خمس ساعات من شارع قصر العينى حتى مقر الفندق على شاطئ شمال سيناء.

عرفت استباقيا أن الإقامة ستكون فى فندق «سويس إن» القديم. كنت أعرف أنه مكان بديع فى موضعه من الساحل، وفى تخطيطه وبنيته التحتية، وقلت إنه ربما جرت عليه عوادى الأيام الصعبة، ولا ضرر أن يكون أقل جودة مما كنت أعرفه؛ فالقيمة بالنسبة لى فى الوجود لا مستوى تحقيقه، وما وافقت على الدعوة إلا لأجل الرمزية التى يجسدها الوجود فى سيناء اتصالا بسابق السنوات، وبما هى عليه اليوم كجبهة أمامية فى معركة الدفاع عن الأمن القومى والقضية الفلسطينية معا.

غير أننى فوجئت حقيقة بتأهيل المكان تحت علامة فندقية جديدة، وجودة التجهيزات والخدمة رغم أننا خارج الموسم، وشمال سيناء ليست مشتى، ومن المتوقع أن تخفف المنشآت الفندقية من جاهزيتها وقدراتها الاستيعابية مع توقعات انحسار الطلب حتى آخر الشتاء.

وباستثناء قدر قليل من الضغوط التى يجسدها وجود أكثر من 400 إنسان فى مكان واحد، وإقبالهم المتزامن على المطاعم ومرافق المكان؛ فإن الأداء العام كان فوق التوقعات، وأفضل مما يمكن أن يتصوره زائر شمال سيناء، خاصة لو كان يعود إليها بعد ثمانى عشرة سنة من الغياب، ضاعت منها عدة سنوات فى امتحان وجودى لم يكن سهلا على الإطلاق.

وفيما يخص الحدث؛ فقد قلت سلفا إنه ربح نقاط النجاح بالوصول بفعالياته ومشاركيه إلى شمال سيناء، وبشكل شخصى أغفر له كل شىء لأجل هذه المكرمة التى كنت أتمناها، وكتبت فى مقال سابق عن محاولة تحقيقها عندما كنت أمينا عاما للمؤتمر ذاته فى دورته الرابعة والثلاثين بالعام 2019؛ لولا أن الظروف واللوجستيات المتاحة وقتها لم تسمح بذلك.

قد يختلف آخرون معى، أو لا يشاركنى آخرون سماحة الغفران؛ غير أننى لا أقصد قطعا أن الدورة مثالية تماما، أو لا تخلو من الشوائب والملاحظات كما جرت العادة على أى جهد بشرى، وعلى الملتقى نفسه فى كل دوراته من دون استثناء. كان حفل الافتتاح «خالى الدسم» تقريبا؛ إذ تغيب الوزير أحمد هنو ربما لارتباطه بالتزامات أخرى، وبالتبعية كان طبيعيا أن يُنيب المحافظ سكرتيره العام بديلا عنه فى غياب رأس المؤسسة الثقافية.

وأُضيف لقائمة الغائبين رئيس المؤتمر السيناريست والشاعر مدحت العدل لأسباب غير معروفة؛ فكانت سابقة منذ النسخة الأولى فى العام 1984 أن تنطلق شرارة المحفل الأهم لأدباء مصر فى غيبة ثلاثة أعمدة من خمس يستند إليها فى يومه الأول، بجانب أمينه العام ورئيس هيئة قصور الثقافة.

كلمة الأمين العام، الشاعر الصديق عزت إبراهيم، غابت عنها الرؤية نسبيا؛ فأطال كثيرا فيما يمكن إيجازه فى ربع الوقت أو أقل، واستعرض جانبا تأريخيا من ذاكرة المؤتمر يعرفه المشاركون جميعا، والمفارقة أنه جاء تاليا لعرض فيلم وثائقى عن الدورات الست والثلاثين السابقة من المنيا برئاسة الدكتور شوقى ضيف فى الثمانينيات، إلى المنيا 2024 برئاسة الدكتور أحمد نوار.

كما خانته اللغة فى كثير من المواضع؛ ربما بأثر الإضاءة الخافتة قليلا، أو لأنها أعدّها على عجل أو أربكته غيبة الغائبين وأنه مضطر لأن يقص الشريط بغير ما سارت عليه التقاليد، أى بالحضور التنفيذى وتكريم المكرمين وغيرها من التفاصيل التى تُكسب الحفل بهاءه، لا سيما أن موعده تقهقر عما كان مقررا فى البرنامج، وبدلا من السابعة والنصف انعقد فى العاشرة مساء.

غير أن أغرب ما اشتمل عليه الافتتاح، أن الأمانة استحدثت كلمة لا مبرر لها وفرضتها على البروتوكول.

والقصة كما عرفت أن لجنة الأبحاث برئاسة الصديق الناقد شوكت المصرى، اقترحت التعاون مع المعهد العالى للنقد الفنى بأكاديمية الفنون فى تحكيم الأبحاث، وبموجب ذلك منحت عميد المعهد الدكتور وليد شوشة تمثيلا رسميا فى الافتتاح، وكلمة تالية فى الترتيب للأمين العام، ما يجعله أعلى منه بمنطق البروتوكول؛ رغم أنه يمثل هيئة معاونة لإحدى لجان الأمانة، أى أنه فرع من فرع عن الأصل، والأمين العام بطبيعة الحال يُمثّل الأمانة بكامل لجانها وأعضائها فى الافتتاح.

ولم أرَ مبررا لهذا الاستحداث المُصطنَع إلا أنه مجاملة ضمن اعتبارات شخصية أو مهنية دُبِّرت فى خلوات لجنة الأبحاث، أو تخص رئيسها بالتحديد.

وعلى اللجنة نفسها ملامة أخرى؛ ذلك أنها وضعت عنوانا فضفاضا للدورة «الأدب والدراما.. الخصوصية الثقافية والمستقبل»، وفرّعت منه محاور لا صلة لها بالمبحث الأصلى.
وفى ثنايا الاثنين اختيرت أبحاث لا إلى هذا أو ذاك، وتبدو أنه تخاطب أسئلة أخرى فى مؤتمر غير ما يتلاقى عليه المؤتمرون هنا.

والحق أننى خضت التجربة سابقا، أمينا عاما وشريكا مباشرا للجنة الأبحاث فى عملها، وأتفهم تماما أن كثيرا من الأعمال المتقدمة للمشاركة قد لا ترقى إلى المستوى المطلوب، ويُعوَّض عن ذلك فى حالات الضعف أو عدم تغطية المسابقة لبعض المحاور بالاستكتاب المباشر، ولا أعرف المُتسابق من المُستَكتَب فى مجمل غابة العناوين المُعبّأة فى كتاب من جزأين؛ غير أن كثيرا منها لا يخلو من ضعف واضح، وخفة فى التأصيل والمنهجية والمفاهيم.

والأهم أنها لم تُصب النجاح الابتدائى السهل بالدخول تحت المحور الذى تتناوله؛ فكأن المحاور كانت فى اتجاه والأوراق فى آخر، وجُمع بعضها لحسابات تخص أصحابها لا محتواها بالأساس.

على كثرة ما زُرت سيناء، وجنوبها خصوصا، تبقى للشمال خصوصية تمنحه غرفة زائدة فى القلب.

والأسباب عديدة ولا حصر لها لمحبة تلك البقعة الغالية، وأرض الفيروز من البحر للبحر ومن القناة لآخر حبة رمل يقف عليها جندى مصرى.
وأحسب أن الأمر لا يعود فقط لما عانته عقودا طويلة، قبل الاحتلال وبعده وإلى موجة الإرهاب التى تكسّرت على شاطئها البكر. شىء ما يهجس بالخيال دوما أن يذهب جهة الشرق، أن يتطلع إلى الشمس التى تُطل علينا من هناك، ويحفظ للأماكن القيّمة ما يُعوّض مظالم الجغرافيا والتاريخ.

وقفت صباحا على الشطّ؛ فرأيت بحرا بكرا كأنه تفجر بالأمس، وتخيّلت لو أنه أطل على نظيره فى الغرب، فاختار فى مقبل أعوامه أن يكون ساحلا شماليا شرقيا وطيبا لمصر، وأن يتقصّد الطبقة الوسطى وما دونها من السياحة الداخلية والخارجية، بما يعزز تنوع المقاصد المصرية ويستغل نطاقا عريضا يفوق مائتى كيلو متر من حدّه الأقصى إلى تخوم بورسعيد.

ومن وراء ذلك تتشكل مجتمعات وبيئات ريفية وحضرية تخدم الواجهة السياحية، وتُعيد توزيع الديموغرافيا من الداخل ومَن يلتحقون بهم من الوافدين. تخيّلت اليوم، وأعرف أن المستقبل قد يكون أجمل من خيال الحاضر.

قضيت ليلتى الأولى فى العريش سائحا فى أنحائها حتى ساعات الصباح الأولى، من قصر الثقافة إلى شارع يُسلّم شارعا، ومن مقهى مع الأصدقاء السيناويين إلى آخر مع أصدقاء غيرهم.

وما استرعانى أن المدينة حيّة ومستيقظة حتى مشارف الصباح، الطرق لا تخلو من المارّة، والمحلات والمطاعم مفتوحة وتستقبل زبائنها، والمقاهى تمتلئ بعائلات وأفراد، ومنهم بنات وشباب يبدو أنهم طلبة جامعات.

لم يكن الجو العام يختلف عن القاهرة؛ إلا فى تخطيط الشوارع وغيبة الأبنية الشاهقة، وما دون ذلك كان ليل العريش كأية مدينة كبرى أو عاصمة نابضة بالحياة.
لبّيت الدعوة لغرام قديم، وتحقيقا لحلم راودنى قبل ست سنوات، وانطلاقا من تصور خاص بأن علينا جميعا ديونا واجبة السداد لسيناء وأهلها، أقلها أن ننفتح عليهم ونتفيّأ معهم فى ظلال أمنها التى ما اتسعت مجددا إلا بجهد جهيد.

غير أننى فوجئت بأكثر وأحسن مما تخيلت، واكتشفت أننا أحوج لسيناء من حاجتها إلينا، بكل ما فيها من امتداد وبراح وسكينة واطمئنان وإمكانات وأجواء بديعة ولا مثيل لها غربا أو فى الجنوب والشمال.

إنها أيام من البهجة الخالصة، تُزهَد فى سبيلها مصاعب السفر وطول الطريق، ولا يبقى منها إلا رائحة اليود البكر تملأ الصدر، وفيض من الآمال لا يقل تدافعا عن موج الشط، ولا اتساعا عن جغرافيا أرض الفيروز الغالية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة