قرأت ما قاله البابا ليو الرابع عشر، بابا الفاتيكان الجديد، في القداس الإلهي يوم عيد الميلاد الخميس الماضي، وتوقفت طويلًا أمام هذه العظة التي خرجت عن المألوف، لا في مضمونها فقط، بل في موقعها أيضًا، قال البابا: "أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، بما أن الكلمة صار جسدًا، فإن الجسد الآن يتكلم، ويصرخ معبرًا عن شوقه الإلهي إلى لقائنا. ضرب الكلمة خيمته الضعيفة بيننا. وكيف لا نفكر في خيام غزة، التي تتعرض منذ أسابيع للمطر والرياح والبرد، وفي خيام الكثيرين غيرهم من النازحين واللاجئين في كل القارات".
وأول ما يلفت الانتباه في هذه الخطبة أن بابا الفاتيكان لا يكتفي بإدانة "الأوضاع" في غزة بوصفها خبرًا إنسانيًا عابرًا، بل يعيد توجيه مناسبة الميلاد نفسها. فالميلاد هنا لا يحصر بوصفه ذكرى روحانية خالصة، بل معيارًا أخلاقيًا للحكم على الحاضر، كأن السؤال غير المعلن الذي يطرحه الخطاب هو: ما معنى أن نحتفل بميلاد المسيح، بينما الخيام في غزة مكشوفة أمام المطر والرياح والبرد؟
يبدأ هذا المقطع من عظة الميلاد من جملة مركزية: "بما أن الكلمة صار جسدًا، فإن الجسد الآن يتكلم، ويصرخ"، نحن منذ اللحظة الأولى أمام انقلاب في مركز الخطاب، فالمعنى لا يتجلى في الصمت الروحي ولا في الطقوس المهيبة، بل في الصراخ، في الألم، في الجسد المعرّض للانتهاك. هكذا ينزل النص اللاهوتي من عليائه، ويضع نفسه في تماس مباشر مع الواقع الإنساني، وكأن العقيدة لا تختبر إلا بقدرتها على الإنصات إلى الجرح.
ثم تأتي الاستعارة الحاسمة "ضرب الكلمة خيمته الضعيفة بيننا"، الخيمة هنا ليست صورة بلاغية عابرة، بل مفتاح الخطاب كله، الخيمة رمز للهشاشة، وللسكن المؤقت، وللانكشاف أمام الطبيعة والقسوة، ومن هذه الاستعارة ينتقل البابا مباشرة إلى الواقع، "وكيف لا نفكر في خيام غزة؟"، السؤال هنا ليس طلبًا للإجابة، بل صيغة اتهام أخلاقي، إنه يضع المستمع في موضع المساءلة: كيف يمكن للاحتفال أن يستمر بلا ارتباك، بينما البشر يعيشون في خيام لا تحميهم من البرد ولا من الحرب؟
ولا يتوقف الخطاب عند غزة بوصفها حالة منفردة، بل يوسع الدائرة لتشمل "النازحين واللاجئين في كل القارات". هذه الحركة من الخاص إلى العام لا تميع القضية، بل تكشف بنيتها العميقة. ما يحدث في غزة ليس استثناء، بل ذروة مكشوفة لمنطق عالمي يقوم على إنتاج الهشاشة، وترك البشر عراة أمام المصير.
حين تم اختيار ليو الرابع عشر بابا للفاتيكان، لم أكن أتوقع الكثير، وقلت وقتها إن العالم قد خسر بابا إنسانيًا استثنائيًا مثل البابا فرنسيس. لكن بعد هذه العظة، عاد إليّ قدر من الثقة، ليس لأن الكلمات تغير الواقع وحدها، بل لأنها تذكر العالم، بأن الصمت لم يعد فضيلة، وأن الميلاد لا يكتمل معناه إذا لم يسمع صراخ الجسد.