ناهد صلاح

​السينما المصرية في ميزان 2026.. بين "تانيت" قرطاج و"عزلة" الأوسكار

الخميس، 25 ديسمبر 2025 12:00 ص


​ونحن على مشارف عام جديد، يبدو المشهد السينمائي المصري كلوحة "سريالية" بامتياز؛ مشهد منقسم بين علامتين متناقضتين ظاهرياً، لكنهما في العمق تكشفان مأزقاً هيكلياً وفرصة تاريخية في آن واحد. من جهة، نعيش لحظة زهو غير مسبوق بعد "أيام قرطاج السينمائية"، حيث حصلت السينما المصرية على "التانيت الذهبي" في مسابقتي الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة معاً لأول مرة في تاريخها. من جهة أخرى، نصطدم بغياب مصري ثقيل عن القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار، في عام شهد حضورا عربيا لافتاً ومستحقاً، وهي ليست بالصدمة الغريبة في حقيقة الأمر، إنما أشبه بصدمة الاعتياد، إن جاز الوصف أو التفسير، فلم تصل السينما المصرية على مدار تاريخها وتاريخ ال " أوسكار" إلى هذه القائمة. على أية حال فإنه بين هاتين النقطتين، يبرز السؤال الوجودي: هل السينما المصرية تعيش نهضة فنية يقتلها غياب الرؤية الاستراتيجية، أم أنها تعاني من انفصام بين الذائقة الإقليمية والمعايير العالمية؟

​أولاً: هذا "النصر" القرطاجي الذي تحقق بفوز فيلم "القصص" للمخرج أبو بكر شوقي بالتانيت الذهبي، إلى جانب فوز فيلم "32 ب مشاكل داخلية" للمخرج محمد طاهر بتانيت الأفلام القصيرة، مع التنويه الخاص بفيلم "البحث عن عباس صابر" للمخرجة دينا حسن أبو العلا، ليس مجرد "موسم حصاد" ناجح، بل هو زلزال في الوعي السينمائي المصري.

​لفهم دلالة هذا الفوز، يجب العودة بلغة الأرقام إلى تاريخ مهرجان قرطاج الذي يقترب من عامه الستين. هذا المهرجان، الذي يعد بوصلة السينما "المناضلة" والملتزمة في أفريقيا والعالم العربي، لم يمنح السينما المصرية ذهبيته سوى ثلاث مرات فقط: "ميكروفون" لأحمد عبد الله (2010)، و"ريش" لعمر الزهيري (2021)، ثم  هاهو "القصص" يحصل عليها في 2025. هذا الشح التاريخي يفسر لنا الكثير؛ فأيام قرطاج السينمائية لم تكن يوماً تحتفي بالسينما "الاستهلاكية" أو "سينما النجوم" التي برعت فيها مصر تجارياً، بل كانت تبحث عن "الهوية" و"التجريب" وعوامل فنية أخرى.

​أهمية فوز أبو بكر شوقي تكمن في كونه يمثل تياراً سينمائياً "عابراً للحدود". شوقي، الذي انطلق عالمياً من "كان" بفيلمه "يوم الدين"، يرسخ في "القصص" مدرسة "الواقعية الشاعرية" التي تفتش في الهوامش. إن انتصار السينما المصرية في تونس هذا العام هو في رأيي انتصار للسينما التي لا تخضع لشروط "الشباك" أو "التريند"، بل تخضع لجماليات الكادر وصدق الحكاية الإنسانية. هذا الفوز يثبت أن المبدع المصري حين يتحرر من سطوة "المنتج الموزع" ويذهب نحو "الإنتاج المشترك" والرؤية الفنية الخالصة، فإنه يمكنه أن ينجح ويصل إلى النقطة التي يريدها.

​ثانياً: فإنه ​على الضفة الأخرى من الأطلسي، يجيء خروج مصر من سباق الأوسكار (جائزة أفضل فيلم دولي) ليكون بمثابة "دش بارد". المفارقة ليست في الاستبعاد بحد ذاته، بل في "الزحام العربي" الذي ملأ الفراغ المصري. وجود أربعة أفلام عربية ضمن القائمة الطويلة (Shortlist) المكونة من 15 فيلماً هو رسالة واضحة بأن موازين القوى السينمائية في المنطقة تتغير أو أنها قد تغيرت بالفعل.

​نجحت دول مثل تونس، فلسطين، والأردن في بناء "تقاليد أوسكارية". هذه الدول لم تعد تشارك من أجل "التمثيل المشرف"، بل باتت تمتلك "ماكينات" سينمائية تعرف كيف تخاطب الأكاديمية الأمريكية. السينما الفلسطينية، مثلاً، نجحت في تحويل قضيتها العادلة إلى لغة بصرية كونية تتجاوز الشعارات، بينما استثمرت الأردن وتونس في جودة الكتابة والإنتاج المشترك مع أوروبا.

​أما المفاجأة الكبرى التي يجب أن نتوقف عندها ملياً فهي العراق. الحراك السينمائي العراقي هذا العام، متمثلاً في فيلم "كعكة الرئيس"، وأعمال مثل "فلانة" و"الأسود على نهر دجلة"، يعكس ولادة سينما من رحم الركام. العراق اليوم يقدم سينما "طازجة"، غير محملة بأثقال "الصنعة التقليدية"، ربما هو ما يستهوي لجان التحكيم الدولية التي تبحث عن الأصالة الممزوجة بالجرأة.

​غياب مصر عن الأوسكار يطرح إشكاليات أعمق من مجرد جودة الفيلم. الإشكال يكمن في "آليات الاختيار" و"استراتيجية التسويق". في مصر، لا تزال عملية اختيار الفيلم المرشح للأوسكار تخضع لسجالات محلية، وأحياناً لضيق أفق في فهم ما تحتاجه "الأكاديمية". الأوسكار، في جوهره، ليس مجرد مهرجان فني، بل هو "منظومة علاقات عامة"، تتطلب ميزانيات ضخمة للعروض والترويج داخل الولايات المتحدة، وهو ما تفتقر إليه الأفلام المصرية المستقلة التي غالباً ما تُترك وحيدة في مواجهة شركات توزيع عالمية تدعم الأفلام المنافسة.

​هناك فجوة بين ما نحتفي به محلياً (السينما التي تداعب الحنين أو القضايا المكررة) وبين ما يمكنه الصمود في سياق المنافسة الدولية. العالم اليوم يبحث عن "الخصوصية المحلية" التي تحمل "أسئلة كونية". بدون وعي "سياسي-ثقافي" بكيفية تقديم أنفسنا للعالم، سنظل نحقق اختراقات فردية (مثل فوز "ريش" أو "القصص") دون أن نتحول إلى "قوة سينمائية مؤسسية" كما فعلت السينما الكورية الجنوبية أو الإيرانية.
​إذا حللنا الأفلام العربية التي وصلت للعالمية، سنكتشف خيطاً مشتركاً: الإنتاج المشترك (Co-production). السينما المصرية، بجلال قدرها وتاريخها، لا تزال في قطاعها العريض منغلقة على الإنتاج المحلي المحض، الذي يستهدف "دور العرض" في المولات التجارية وخدمات "البث الرقمي" الإقليمية.

​بينما الأفلام التي فازت في قرطاج أو التي تطمح للأوسكار هي أفلام "هجينة" إنتاجياً؛ فهي تجمع بين التمويل المصري، والدعم من صناديق المهرجانات (مثل صندوق البحر الأحمر أو صناديق أوروبية)، وتعتمد على تقنيين من جنسيات مختلفة. هذه "العالمية في التنفيذ" تمنح الفيلم جودة تقنية وقدرة على التوزيع الدولي لا تملكها الأفلام "المحلية الصرفة". العام الجديد يتطلب شجاعة من المنتجين المصريين للخروج من "شرنقة" السوق المحلي والاشتباك مع آليات الإنتاج العالمي.

​إن فوز "القصص" أو "32 ب مشاكل داخلية " أو"البحث عن عباس صابر" في قرطاج يصعب أن نعتبره صدفة، بل هو فوز يشير إلى تحول سوسيولوجي في السينما المصرية. نحن ننتقل من سينما "المركز" (القاهرة بشوارعها وصراعات طبقتها المتوسطة التقليدية) إلى سينما "الهوامش" و"الجغرافيا البعيدة". أبو بكر شوقي مثلا يأخذنا دائماً في رحلات جغرافية ونفسية بعيدة عن "صخب العاصمة"، وهذا هو بالضبط ما يجعل السينما المصرية متجددة.

​الرهان في 2026 يجب أن يكون على دعم هؤلاء المبدعين الذين يمتلكون "رؤية بصرية" لا تكتفي بالحوار والكلام، بل تعتمد على لغة السينما الخالصة. السينما المستقلة في مصر لم تعد "مجرد تجارب شبابية"، بل أصبحت هي "الواجهة الحقيقية" التي تحفظ وجه مصر في المحافل الدولية، في حين تنشغل "السينما التجارية" بإعادة تدوير الصيغ الجاهزة والكوميديا المعتمدة على "الإفيه" اللحظي.

​أمام السينما المصرية في العام الجديد ثلاثة تحديات كبرى: تحويل النجاحات الفردية إلى مشروع سينمائي تقوده رؤية واضحة (سواء من الدولة أو من الكيانات الإنتاجية الكبرى) لدعم الفيلم "المهرجاني" وتسويقه عالمياً. كذلك لابد من سد الفجوة التقنية في مجالات المونتاج، تصحيح الألوان، وتصميم الصوت، لتضاهي المعايير العالمية التي تطلبها الأوسكار، ثم تأت ضرورة ​حرية التعبير والتجريب، نحتاج سينما "جريئة" تطرح أسئلة شجاعة عن الإنسان والمجتمع. بدون سقف مرتفع من الحرية الفنية، ستظل السينما المصرية تدور في حلقة مفرغة.

​أما الفرص، فهي تكمن في "العطش العالمي" لقصص المنطقة. العالم يريد أن يرى مصر "الأخرى"، مصر غير النمطية، مصر التي تدمج بين تاريخها الضارب في القدم وواقعها المعاصر المعقد. لدينا جيل من السينمائيين تعلموا لغة السينما العالمية دون أن ينسوا هويتهم المصرية.

​العام الجديد ليس مجرد رقم في الرزنامة، بل هو فرصة لتحويل هذا التناقض إلى طاقة بناء. نحن بحاجة إلى "مصالحة" بين السينما التي تحصد الجوائز والسينما التي يراها الجمهور، بحاجة أكبر إلى إدراك أن السينما هي "قوة ناعمة" لا تُقاس فقط بعدد التذاكر المباعة، بل بقدرتها على حفر اسم مصر في ذاكرة الفن العالمي. بحاجة أن نؤمن بأن الحكاية المصرية تستحق أن تُروى للعالم كله، لا لنفسها فقط.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة