هيثم الحاج على

القوى الناعمة المصرية (2) خارطة طريق لاستعادة الأثر

الخميس، 25 ديسمبر 2025 04:25 م


إذا كان الاعتراف بمركزية السياق هو المفتاح الأهم لفهم عبقرية التجربة المصرية، فإن الانتقال من "حالة الوجود" إلى "حالة التأثير" يتطلب منا التركيز على ما يمكن تسميته بهندسة الأثر، فالقوى الناعمة، في جوهرها، ليست مجرد مخزون استراتيجي من منتجات يمكن أن تُحفظ في الخزائن، بل هي تدفق مستمر يشبه التيار الكهربائي؛ الذي إذا توقف عن الحركة، تحول إلى مجرد سلك هامد لا يضيء ولا يدفئ ولا يحدث أثرا سوى وجوده الجامد.

إن المعضلة التي تواجهنا اليوم ليست في نضوب المعين الإبداعي، فمصر لا تزال ولادة، لكنها تكمن في الركون إلى الشرعية التاريخية بوصفها صك استحقاق أبدي، والواقع إن العالم من حولنا لم يعد يكتفي بالانبهار بماضينا، بل بات يسأل عن "الجدوى" في حاضره، وهنا تبرز أهمية إدارة الأثر؛ وهي العملية التي تعني ألا نكتفي بإنتاج الكتاب أو الفيلم أو الأغنية، بل أن نخطط للمساحات التي سيحتلها هذا المنتج في وعي الآخر، وكيف سيعيد صياغة انطباعاته عن الدولة المصرية الحديثة، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن يكون هدف ترجمة الكتب العربية إلى اللغات الأخرى بمعزل عن القراء في تلك اللغات، فلن تجدي ترجمة الكتاب وطباعته والتباهي بذلك من دون أن يكون مؤثرا داخل منظومة توزيع تعتمد على الناشر والموزع الأجنبي ضمن آليات سوقه.

وتتطلب إدارة الأثر أولا التحرر من منطق "القطعة" والتحول إلى العمل بمنطق "المنظومة"، فالمبدع المصري الذي كان "يفيض الشعر من تحته وفوقه" لم يكن يعمل في فراغ، بل كان (مسنودا) بمؤسسات ثقافية وتعليمية وصحفية تدرك أن دورها هو "تصدير" القيم لا مجرد استهلاكها، وتعني فكرة استعادة هذا الدور أن تتحول البعثات التعليمية، والمراكز الثقافية في الخارج، والمنصات الرقمية، إلى "مجسات" ذكية تقرأ احتياجات المحيط الإقليمي والدولي، وتخاطبه بلغة العصر وأدواته، دون تفريط في خصوصية الهوية المصرية.

كما أن إدارة الأثر تستوجب إدراك أن المنافسة الإقليمية اليوم لم تعد تعتمد على "الأفضلية" بقدر ما تركز على "الجاذبية"، وأن القوى الصاعدة التي تحاول ملء الفراغات لا تمتلك بالضرورة عمقنا التاريخي، لكنها تمتلك "كفاءة الإدارة" وسرعة الاستجابة للمتغيرات.

لذا فإن مواجهة محاولات إضعاف تأثيرنا لا تكون بالانكفاء على الذات أو التباكي على أطلال الريادة، بل بامتلاك الجرأة على "تحديث السياق" الذي أنتج شوقي وطه حسين وأم كلثوم.

إن الثقافة حين تُدار كقوة استراتيجية، تتحول من "بند في الموازنة" إلى "استثمار في الوجود"، إنها حائط الصد الذي يمنع ذوبان الهوية، وهي الجسر الذي تعبر عليه المصالح السياسية والاقتصادية لتستقر في وجدان الشعوب، كما أن "إدارة الأثر" هي البداية الحقيقية لاستعادة زمام المبادرة، لضمان أن تظل مصر ليس فقط دولة ذات تاريخ، بل دولة هي "المستقبل" الذي يتطلع إليه محيطها، وبذلك فقط نحول قوتنا الناعمة من "إرث" نخشى عليه من الضياع، إلى "سلاح" يمكن عن طريقه ملامح مستقبلنا، وهو بالضبط ما سوف نناقشه في المقال القادم لمعرفة منظومة الإجراءات الممكنة للوصول إلى هذا الهدف.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة