لم يتشكّل الحضور الإنجيلي في مصر بوصفه ظاهرة طارئة أو استثناءً دينيًا، بل كمسار تاريخي اندمج في تكوين المجتمع المصري الحديث، وأسهم في صياغة بعض ملامحه التعليمية والاجتماعية والثقافية. فمنذ بدايات القرن التاسع عشر، ارتبط هذا الحضور بفكرة الوطن بوصفه الإطار الجامع، وبالإنسان المصري باعتباره غاية العمل وموضوعه، لا باعتباره تابعًا أو رقمًا في معادلة طائفية. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة التجربة الإنجيلية باعتبارها تجربة وطنية في الأساس، نشأت داخل المجتمع، وتفاعلت مع تحوّلاته، وشاركت في بناء مساحاته المشتركة.
ارتبطت الكنيسة الإنجيلية مبكرًا بمشروعات التحديث والتنمية المصرية، من خلال التعليم والخدمة الاجتماعية والعمل الأهلي. فقد أسهمت مدارسها في نشر التعليم النخبوي المنظم، وربطته بقيم الانضباط والمسؤولية، كما لعبت الكنائس دورًا روحيًا واجتماعيًا تجاوز حدود العبادة إلى رعاية الإنسان في واقعه اليومي. ولم يكن هذا الدور منعزلًا عن السياق الوطني العام، بل جاء متسقًا مع تحولات الدولة المصرية وسعيها لبناء مجتمع حديث قائم على المعرفة والمؤسسات.
ومع تأسيس الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية في منتصف القرن العشرين، دخل الحضور الإنجيلي مرحلة جديدة من التنظيم المؤسسي للعمل العام. فقد انطلقت الهيئة من رؤية رأت في التنمية مسارًا طويلًا لبناء الإنسان، لا مجرد عمل خيري عابر، وفي المواطنة أساسًا للعلاقة بين الفرد والدولة. وعلى مدار عقود، امتد عمل الهيئة ليشمل مجالات التعليم، والصحة، وتحسين البيئة، والتمكين الاقتصادي، وبناء القدرات، مع الالتزام الحازم بخدمة الإنسان دون تمييز ديني أو اجتماعي.
وخلال هذه المسيرة، ظل البعد الوطني حاضرًا بوصفه بوصلة للعمل، لا شعارًا مرفوعًا. فقد تفاعلت المؤسسات الإنجيلية مع محطات دقيقة في تاريخ الوطن، وشاركت في دعم السلم المجتمعي، وتعزيز قيم العيش المشترك، والتأكيد على وحدة النسيج الوطني. وفي هذا السياق، تشكّلت علاقات راسخة مع المؤسسات الدينية المصرية، وعلى رأسها الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصرية، إلى جانب علاقات المحبة والتعاون مع الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، في نموذج يعكس خصوصية التجربة المصرية القائمة على الشراكة لا التنافس.
ويظهر المشهد الروحي بوصفه أحد أهم تجليات هذا الحضور، حيث تحولت احتفالات الكنائس إلى مناسبات وطنية جامعة، يشارك فيها المسلمون بالتهنئة، وتعكس روح المجتمع المصري القائم على الانسجام والاحترام المتبادل. هذا المشهد، المتكرر والعفوي، ليس تفصيلًا اجتماعيًا، بل تعبير عميق عن إدراك جمعي بأن الدين في مصر عنصر تماسك، لا أداة فرقة.
في المرحلة الراهنة، يتجسد الحضور الإنجيلي في مصر من خلال تفاعل واعٍ مع قضايا الدولة والمجتمع، يقوم على فهم عميق لطبيعة اللحظة الوطنية وتعقيداتها. وتحت قيادة الدكتور القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية ورئيس الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، تبلور خطاب إنجيلي متزن، يربط بين الإيمان والعمل العام، ويؤكد أن المواطنة ليست مجرد مفهوم قانوني، بل ممارسة يومية قائمة على المسؤولية والمشاركة.
وقد انعكس هذا التوجه في انخراط فعّال في مبادرات الدولة، والشراكة مع وزارة التضامن الاجتماعي، والمشاركة في التحالف الوطني للتنمية، ودعم الفئات الأكثر احتياجًا، والاستجابة للأزمات الصحية والمناخية. كما برز الدور الإنجيلي في ملفات نوعية، مثل دعم حقوق ذوي الإعاقة، وتمكين المرأة والشباب، وربط التعليم بسوق العمل، بما يعكس فهمًا معاصرًا للتنمية الشاملة.
أما على المستوى الإقليمي والدولي، فقد حافظت الطائفة الإنجيلية على موقف وطني واضح من الصراع العربي–الإسرائيلي، يقوم على دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ورفض كل أشكال التوظيف الديني للصراع. وفي هذا الإطار، تميّز الخطاب الإنجيلي المصري بوضوحه في الفصل بين الدين والسياسة، ورفضه القاطع لما يُعرف بالصهيونية المسيحية، بوصفها تيارًا سياسيًا لا يعبّر عن موقف الكنائس المصرية أو رسالتها.
ويمتد هذا الحضور إلى مجال الدبلوماسية الشعبية، حيث شاركت المؤسسات الإنجيلية في حوارات دولية، نقلت من خلالها صوت المجتمع المصري، وقدّمت نموذجًا لخطاب عقلاني يدافع عن القضايا العادلة، ويعزز فرص التفاهم، ويؤكد أن مصر تملك رصيدًا حضاريًا وأخلاقيًا يؤهلها للعب دور محوري في محيطها.
في المحصلة، لا يمكن فهم الحضور الإنجيلي في مصر إلا باعتباره جزءًا أصيلًا من التجربة الوطنية الحديثة؛ حضورًا تشكّل عبر التاريخ، وتطوّر مع الدولة، واستند إلى رؤية ترى في الإنسان محور التنمية، وفي الوطن إطارًا جامعًا، وفي التعدد مصدر قوة. وهو حضور يواصل اليوم أداء دوره بهدوء وثبات، مؤمنًا بأن بناء المستقبل لا يتم بالصخب، بل بالعمل المتراكم، وبالوعي، وبالشراكة الصادقة من أجل مصر.