أكد الدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن شهر رجب الأصَب هو شهر يصبّ الله فيه الخير صبًّا، وهو مدخل للوسع والفضل والطمأنينة، مشيرًا إلى أنه أحد الأشهر الأربعة الحرم التي خصّها الله بميزة خاصة، موضحًا أن تخصيص ثلث السنة كأشهر حرم يطرح سؤالًا جوهريًا حول الحكمة من هذا الزمن المختلف، وهل المقصود به زيادة الخوف أم استعادة السكينة والشعور بمدد الله.
وأوضح الدكتور عمرو الورداني، خلال حلقة برنامج "مع الناس"، المذاع على قناة الناس اليوم الأربعاء، أن مفهوم الأشهر الحرم تعرّض لظلم كبير عبر الزمن، حين فُهم على أنه موسم تشديد وترقّب وتهديد، وكأن الله سبحانه وتعالى ـ حاشاه ـ يقف مترصدًا لعباده، ينتظر زلاتهم ليعاقبهم، مؤكدًا أن هذا الفهم لا يليق بالله الذي وصف نفسه بالرحمة، ولا يتسق مع منطق الإله الرحيم الذي لا يصنع أزمنة مخصوصة لتخويف عباده، بل يفتح لهم أبواب الأمان والعودة.
الأشهر الحرم رحمة مُنظَّمة
وأشار أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية إلى أن هذا الفهم المشوّه لم يعبّر فقط عن ضيق في الرؤية، بل أدى إلى تحويل الأشهر الحرم من مساحات أمان إلى مواسم قلق، وجعل بعض الناس يتعاملون مع الدين بمنطق القسوة، في حين أن الحقيقة التي يجب أن تعود إلى القلوب هي أن الأشهر الحرم رحمة مُنظَّمة، يتربّى فيها الإنسان على الرحمة، لا على الرعب.
وبيّن أن كثيرين يرددون أن العقاب يتضاعف في الأشهر الحرم، بينما القرآن الكريم حين ذكرها قال: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا… منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم»، موضحًا أن جوهر الخطاب هنا ليس التخويف، بل الحماية، فالمعصية في حقيقتها ظلم للنفس قبل أي شيء، والله سبحانه وتعالى يحمي الإنسان من هذا الظلم، لأنه يعلم حجم التعب والصراع والقسوة التي تستهلك قلبه.
الأشهر الحرم ليست فرمان تهديد
وأكد الدكتور عمرو الورداني أن الأشهر الحرم ليست فرمان تهديد، بل أمانٌ زمنيٌّ مقصود، يُخفف فيه الإنسان من ثقل الذنب، ويهدأ، ويعود إلى نفسه، مشيرًا إلى أن من يفهم الأشهر الحرم فهمًا صحيحًا يعيشها زمن سكينة واستشفاء، أما من يفهمها خطأ فيحوّلها إلى توتر مضاعف فوق توتر حياته.
وشدد على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم دليل واضح على أن الله حرم كل ما يزرع الخوف والرعب والتوتر، ليجعل هذه الأزمنة مساحات أخلاقية للسكينة، والتجرد من الأعباء، والاستعداد للعودة إلى الله بهدوء، مؤكدًا أن الأشهر الحرم ليست زمن خوف، بل مواسم أخلاقية لإعادة وصل الإنسان بإنسانيته، وبربه، ولكن على مهل ورحمة.
وهم «الإله المتربص» حوّل مواسم الرحمة
أكد الدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن من أخطر الأوهام المنتشرة في الوعي الديني حاليًا ما وصفه بـ«وهم الإله المتربص»، موضحًا أن هذا الوهم يدفع كثيرًا من الناس في مواسم مثل رجب وشعبان ورمضان إلى التعامل مع العبادة بقلق مفرط، فيضعون جداول وخططًا وأجندات بدافع الخوف من الفوات، أو ما يسميه الشباب اليوم بـ«الفومو»، وكأن الله سبحانه وتعالى ينتظر لحظة تقصير ليقول للعبد إن الفرصة انتهت.
وأوضح الدكتور عمرو الورداني، أن هذا التصور الخاطئ يصنع علاقة مضطربة مع الله، تقوم على الترقب والخوف بدلًا من الرحمة والبشرى، مؤكدًا أن الأشهر الحرم هي في حقيقتها «أشهر مدد ورحمة»، لا مواسم تهديد أو إنذار، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ثلث السنة زمن للمدد، ومشيرًا إلى أن الواجب هو استبدال الخوف بالبشرى، لا العكس، لأن الله سبحانه وتعالى بدأ كتابه بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» وقال عن نبيه: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
الإلحاد العاطفي
وبيّن أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية أن وهم الإله المتربص لم ينشأ من فراغ، بل زُرع في الوعي الديني عبر سنوات طويلة، من خلال تصور خاطئ لعلاقة الإنسان بالله، قائم على فكرة المحاسبة القاسية والترصد، وكأن الله عقد صفقة مع الإنسان وينتظر فشلها، مؤكدًا أن هذا الفهم هو من أسباب ما وصفه بـ«الإلحاد العاطفي» عند بعض الشباب، وشعور آخرين بأن الدين عبء ثقيل وضغط نفسي.
وأشار إلى أن الله سبحانه وتعالى ليس مشروعًا ينتظر نجاحه أو فشله، فالإنسان ليس تجربة عند الله، بل هو مخلوق لله، والله «فعال لما يريد»، موضحًا أن الإنسان حين يفقد الإحساس بالأمان في الحياة، ينقل هذا الخوف إلى علاقته بالله، فيتصور علاقة قاسية مشوهة، فيتحول الدين من ملاذ وأمان إلى مصدر قلق إضافي، بدلًا من أن يكون مساحة رحمة وسكينة.
معنى السكن والطمأنينة من العلاقة مع الله
وأكد الدكتور عمرو الورداني أن الخلل الحقيقي يحدث حين يُنتزع معنى السكن والطمأنينة من العلاقة مع الله، رغم أن الله سبحانه وتعالى جعل السكينة والرحمة أصلًا في كل علاقاته بخلقه، كما قال تعالى: «لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»، مشددًا على أن تشويه صورة الله في القلوب يحوّل الدين من مصدر أمان إلى حالة ترقب مشوبة بالقلق، وهو ما يستوجب تصحيح هذا التصور والعودة إلى فهم الدين بوصفه رحمة واحتواء لا خوفًا وضغطًا.