ونحن نتحدث عن القوة الناعمة، والثقافة والأفكار، والغرور والدونية، نتذكر الكاتب والمثقف العظيم نجيب محفوظ، الذى ولد فى 11 ديسمبر 1911، ورحل قبل 19 عاما، ولا تزال أعماله الروائية وأفكاره ومقولاته، التى تمثل خلاصة حياة وثقافة وأفكارا، تجد لها قراء ومتابعين، وبعضها لا تزال تحتل مكانتها فى تويتات وعناوين بارزة، ويظل مضيئا فى زمن التريند لعصره والعصور الجديدة، فقد كان أهم ما يميز النجيب محفوظ هو تواضعه الكبير وتسامحه اللامحدود تجاه خصومه ومنتقديه، وأيضا تجاه بعض الجهلاء والمتطاولين، وبالرغم من أن نجيب محفوظ استحق جائزة نوبل فى الأدب عن جدارة، باعتباره صاحب أهم مشروع روائى عربى، وعند إعلان فوزه بـ«نوبل» تعامل مع الجائزة، حسب طبيعته، وقال فى سيرته التى أدلى بها للكاتب الكبير، رجاء النقاش: إنه لم يكن يفكر فى الجائزة، وكان يرى أن هناك نوعا من «عقدة الخواجة» تتحكم فى العرب ونظرتهم لأنفسهم.
بعد إعلان فوز نجيب محفوظ بنوبل، عم الفرح الجمهور العادى وأغلبية المثقفين فى العالم العربى، لاعتبار هذا الفوز طريقا يعرف العالم بالأدب العربى، مثلما عرف فوز جابرييل جارسيا ماركيز العالم بالأدب اللاتينى، لكن الأمر لم يخل من تهجمات ردود الأفعال لدى بعض الكتاب الكبار، ممن كان بعضهم ينتظر الجائزة، أو يتصور نفسه أحق بها، وعلى رأسهم الدكتور يوسف إدريس، الذى لمز بوضوح أن نجيب محفوظ فاز بنوبل بفضل الصهيونية العالمية، وهو أمر مفارق، أن يطمح إدريس فى نوبل وهو يعتبرها صهيونية، طبعا يوسف إدريس مبدع كبير، وربما استحق نوبل بعد نجيب، لكن الأمور بالفعل لا تجرى على هذا النحو، بل إن نجيب محفوظ قال: هناك من أساتذته من يستحق «نوبل» مثل توفيق الحكيم وطه حسين، وكان «الحكيم وإدريس» ممن تمت تزكيتهما للجائزة، ومن الأدباء العرب كان أدونيس، لكن الدكتور يوسف إدريس الوحيد الذى أعلن أنه الأحق بالجائزة، ثم بعدها أدلى بأحاديث صحفية قال فيها: إن نجيب محفوظ حصل على الجائزة العالمية بفضل الصهيونية العالمية. وبجانب إدريس كان هناك أدباء مغمورون أو نصف معروفين كرروا هذا الكلام، متجاهلين أن نجيب محفوظ كان صاحب المشروع الروائى الأكمل الذى يقدم تاريخا اجتماعيا لمصر طوال ثلاثة أرباع القرن العشرين.
من جهته كان نجيب محفوظ زاهدا فى الجوائز، ويرى أن هناك من يسعى لها بشكل مرضى، ويتهافتون ليطلبوا من جهات أكاديمية أن ترشحهم للجائزة، ومع هذا لم يخفِ محفوظ سعادته بالحصول على نوبل، ورأى أنها ساهمت فى تعريف العالم بالأدب العربى، ويقول: لم يصبن الحزن والإحباط بسبب الهجوم الذى تعرضت له من بعض أدبائنا، وعلى رأسهم الدكتور يوسف إدريس. وسخر فى مذكراته التى سجلها رجاء النقاش: الصهيونية العالمية التى تحدث عنها إدريس وغيره أعطيناها كمثقفين عرب أكثر من حجمها، وجعلنا منها إلها قادرا على كل شىء، وأنها تصنع التاريخ والحاضر والمستقبل، وتدير عجلة الكون، فى حين أنها عبارة عن جماعة من اليهود لديهم الثروة والذكاء والقدرة على الدعاية، وتساءل ساخرا: «هل بلغت السذاجة بالصهيونية العالمية لأن تسعى من أجل منح أديب عربى جائزة كبرى» وواصل سخريته: «أتصور أن الصهيونية التى تحدث عنها إدريس ضحكت فى سرها على كلامه، كما ضحكت لجنة نوبل».
نذكر هذه التناقضات والوقائع بمناسبة شهر ميلاد النجيب، الذى كانت آرائه ولا تزال تتعامل وتتفاعل مع ما جرى وما يجرى من تطاول أو انتهازية أو جهل، وكان يقارن بين موقف الجمهور ومواقف المثقفين أبناء الكار ويقول: «كنت عندما أسير فى الطريق يستوقفوننى ويأخذونى بالأحضان، وأسمع منهم كلمات تلقائية بسيطة مليئة بالحب والتقدير»، وروى كيف كان سائقو التاكسى يتسابقون لتوصيله ويقسمون بالطلاق ألا يتقاضوا أجرا، فقد كان نجيب محفوظ هنا يشير إلى اعتدال الناس والجمهور العادى عن بعض النخب، و«عقدهم النفسية» التى عانى منها كثيرا، ويقول نجيب محفوظ: فوزى بجائزة نوبل للأدب كان له صدى طيب عند المثقفين على الإجمال، وأعنى اللفظ الشامل للمثقف ولا أقصره على الأدباء والمفكرين، فهو يشمل الأطباء والمهندسين والزراعيين وأساتذة الجامعات، ولا توجد هيئة فى مصر لم تحتفل بهذا الفوز ولا تسعى لتكريمى، بما فى ذلك نادى القضاة الذى منحنى عضويته الشرفية.
نجيب محفوظ يقدما دروسا مستمرة بأعماله وآرائه، ويعترف بأنه مدين للسينما لأنها عرفت الجمهور العام به، ويمكن أن نرى مثل شخصيات نجيب محفوظ الأدبية فى الشوارع والحوارى والأزقة، وحاليا على مواقع التواصل، فهو يقدم أشكالا وأنواعا من البشر الأقوياء والواثقين والمترددين والمتناثرين والضعفاء والانتهازيين، ولم يكن يصدر أحكاما، لكنه كان يحاول فهم الأشخاص كما هم، بمآسيهم وقوتهم وضعفهم، ويرسم صورة، وفى رواياته عن قاهرة ما بين الحربين يرصد نشأة الفاشية، وانتشار البطالة والبؤس والفقر.. قاهرة الطبقة المتوسطة الصغيرة، الموظفين والطلبة، ويذهل من يكتشف أن نفس الصراعات والاختلافات والأسئلة التى كانت فى بدايات ومنتصف القرن العشرين استمرت وعبرت مع الأجيال، لتبقى قائمة، وحتى حيرة الشخصيات، وانتهازية بعضها، وعدمية البعض الآخر، يقدمها نجيب محفوظ، الفيلسوف الحكيم، الموظف المراوغ المتسامح، الذى لم يتنازل عن إيمانه بالحرية والعدل، حتى الذين حاولوا اغتياله، وحاول البحث عن أسباب لمأساتهم وجهلهم، وكيف حاولوا اغتياله وهم لم يقرأوا له حرفا، بل إنه يقدم الجاهل المتعالم «المتعامق» المدعى، فى صورة جعفر الراوى بروايته«قلب الليل» وهو موضوع آخر يستحق الحديث.
