في مشهد أعاد إلى الأذهان أسوأ لحظات التوتر الاجتماعي في أوروبا، تحولت شوارع العاصمة البلجيكية بروكسل إلى ساحة احتجاج مفتوحة، بعدما خرج آلاف المزارعين الأوروبيين بجراراتهم الزراعية ليعلنوا رفضهم الصريح لاتفاق التجارة الحرة المرتقب بين الاتحاد الأوروبي وتكتل «ميركوسور». احتجاجات لم تكن رمزية أو عابرة، بل حملت رسائل سياسية واقتصادية عميقة تهدد بإعادة رسم ملامح العلاقة بين بروكسل وريفها الغاضب.
جرارات في قلب العاصمة الأوروبية
شارك في الاحتجاجات نحو 8 آلاف مزارع وأكثر من 500 جرار زراعي، ما أدى إلى شلل شبه كامل في وسط بروكسل، بالتزامن مع انعقاد اجتماعات قادة الاتحاد الأوروبي، المشهد كان صادمًا: جرارات تصطف أمام المؤسسات الأوروبية، دخان يتصاعد، وشعارات تندد بما يصفه المزارعون بـ«بيع الزراعة الأوروبية» لصالح اتفاقات تجارية غير متكافئة.
مخاوف من منافسة غير عادلة
السبب الرئيسي لغضب المزارعين يتمثل في اتفاق ميركوسور، الذي يضم الأرجنتين و البرازيل وباراجواي وأوروجواي، ويهدف إلى تسهيل تدفق المنتجات الزراعية من أمريكا اللاتينية إلى السوق الأوروبية.
ويحذر المزارعون، خصوصًا في فرنسا وبلجيكا، من أن الاتفاق سيغرق الأسواق الأوروبية بمنتجات أرخص لا تخضع للمعايير البيئية والصحية الصارمة المفروضة داخل الاتحاد الأوروبي، ما يعني – بحسبهم – منافسة غير عادلة تهدد بإفلاس آلاف المزارع العائلية.
رفض يتجاوز الاتفاق التجاري
لم تقتصر الاحتجاجات على رفض ميركوسور فقط، بل اتسعت لتشمل السياسات الزراعية الأوروبية ككل، خاصة المقترحات المتعلقة بتقليص الدعم المالي ضمن ميزانية السياسة الزراعية المشتركة.
وقال المزارع البلجيكي ماكسيم مابيل في تصريح لوسائل الإعلام: نحن هنا لنقول لا لميركوسور، أوروبا تتحول إلى ديكتاتورية تفرض قراراتها دون الاستماع للمزارعين، واتهم مابيل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بمحاولة تمرير الاتفاق بالقوة السياسية.
انقسام أوروبي وتأجيل حاسم
كان من المقرر توقيع الاتفاق خلال قمة في مدينة فوز دو إيجواسو البرازيلية، إلا أن فرنسا وإيطاليا طالبتا بتأجيل التوقيع، لتنضم إليهما لاحقًا المجر وبولندا، ما أفشل حصول الاتفاق على الأغلبية المطلوبة داخل بروكسل.
وحذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن بلاده لن تدعم الاتفاق دون ضمانات قوية تحمي المزارعين الفرنسيين من المنافسة غير المتكافئة.
وفي ظل هذا الانقسام، أعلنت فون دير لاين رسميًا تأجيل توقيع الاتفاق إلى يناير، في خطوة وُصفت بأنها ضربة سياسية للمفوضية الأوروبية، خاصة أن دولًا مثل ألمانيا وإسبانيا والدول الإسكندنافية كانت تدفع بقوة نحو الإسراع في التوقيع.
اشتباكات ودخان وبطاطس
الاحتجاجات لم تخلُ من التوتر، إذ ألقى المتظاهرون قنابل دخان وبطاطس تجاه قوات الأمن، التي ردت باستخدام الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه.
وجاءت هذه المواجهات بينما كان قادة الاتحاد الأوروبي يناقشون ملفات حساسة تتعلق بالتجارة والسياسة الزراعية، ما زاد من حدة المشهد ورسائله السياسية.
أزمة زراعة ممتدة
يرى المزارعون أن الزراعة الأوروبية تعاني أزمة مزمنة منذ سنوات، ويحملون الاتحاد الأوروبي مسؤولية إضعاف الريف الأوروبي عبر اتفاقات تجارية غير متوازنة وتقليص الدعم، في وقت ترتفع فيه تكاليف الإنتاج وتزداد القيود البيئية.
تحذير برازيلي أخير
في المقابل، وجه الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا تحذيرًا واضحًا، مؤكدًا أن الاتفاق إذا لم يُقر الآن، فلن يتم توقيعه طوال فترة رئاسته، مشيرًا إلى أن المفاوضات استمرت لأكثر من 20 عامًا دون حسم.
مستقبل غامض
بين جرارات المزارعين الغاضبين وقاعات بروكسل المغلقة، يقف اتفاق ميركوسور على حافة المجهول. فإما تسوية توازن بين التجارة وحماية الزراعة، أو تصعيد اجتماعي أوسع قد يعيد رسم العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وقطاعه الزراعي، في واحدة من أخطر أزمات الثقة التي تواجه القارة في السنوات الأخيرة.