شحاتة زكريا

السودان… حين تصبح الدولة سؤالا مفتوحا

الإثنين، 22 ديسمبر 2025 12:57 م


في اللحظات التي تتحول فيها الأوطان إلى ساحات اختبار لا تسقط الدول فجأة بل تتآكل ببطء خطوة خلف خطوة حتى يصبح الوطن ساحة نزاع لا كيانا جامعا. ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد حرب بين أطراف مسلحة بل اختبار حقيقي لفكرة الدولة نفسها: هل ما زالت قادرة على الصمود أم أن التفكك أصبح احتمالا مطروحا على الطاولة؟

الخطر الأكبر لا يكمن في صوت الرصاص بل في الاعتياد عليه. حين يعتاد العالم على صور النزوح وحين تتحول المجازر إلى أرقام وحين يُختزل السودان إلى نشرات أخبار يبدأ الضياع الحقيقي. السودان أكبر من كونه صراعا عسكريا هو عقدة جغرافية وتاريخ ممتد وعمق حضاري وإنساني. أي تصدع فيه لا يتوقف عند حدوده بل يمتد كأمواج صامتة إلى محيطه المباشر وفي القلب منه مصر.

من هنا يصبح فهم الموقف المصري أمرا حاسما. القضية ليست تدخلا ولا وصاية بل قراءة واقعية لتشابك المصير. مصر لا ترى السودان كملف خارجي بل كامتداد حيوي للأمن والاستقرار وكشريك في نهر واحد وتاريخ واحد ومصير لا يقبل التجزئة. الرهان المصري منذ اللحظة الأولى لم يكن على طرف ضد آخر بل على بقاء الدولة نفسها: دولة موحدة بمؤسسات قادرة وبجيش وطني ومسار سياسي لا يُفرض بالقوة. هذا الفارق يجعل التحرك المصري مختلفا: لا ضجيج لا شعارات بل ثوابت واضحة لا تتغير بتغير موازين السلاح.

أخطر ما يواجه السودان اليوم هو محاولات تطبيع الفوضى أو تمرير التفكك تحت مسميات إنسانية وسياسية. التاريخ القريب في الإقليم يعلّمنا درسا صارخا: تقسيم الدول لا ينقذ شعوبهابل يضاعف مآسيها ويفتح أبوابا لا تُغلق من النزاعات والتدخلات.

ولا يمكن أن نغفل البعد الإنساني. ملايين المدنيين العالقين بين نارين لا يحتاجون إلى بيانات بل إلى ممرات آمنة وإلى وقف حقيقي لإطلاق النار وإلى إرادة دولية ترى الإنسان قبل الحسابات السياسية. فالدولة التي تفقد شعبها حتى لو بقيت خرائطها تكون قد خسرت جوهرها.

وإذا تعامل البعض مع السودان كملف مؤجل فإن الواقع لا ينتظر. كل يوم يمر دون حل يراكم الكراهية ويهدم النسيج الاجتماعي ويصنع أجيالا لا تعرف إلا الحرب. هنا يصبح السؤال الأكثر إلحاحا: من يعيد بناء الثقة بعد أن تتوقف المدافع؟

المعادلة واضحة لكنها صعبة: لا سلام بلا دولة ولا دولة بلا وحدة ولا وحدة بلا مشروع سياسي جامع. أي تجاوز لهذه المعادلة هو قفز في المجهول يدفع ثمنه الأبرياء أولا ثم الإقليم كله لاحقا.

السودان اليوم لا يحتاج إلى وصاية بل إلى فرصة حقيقية للنجاة. فرصة تحمي وحدته وتوقف نزيفه وتعيد له صوته بين الأمم. أما تركه يتآكل تحت وطأة الصراع فهو ليس حيادا بل مشاركة صامتة في الضياع.

على صعيد آخر لا يمكن إغفال الرهان التاريخي. السودان بلد كان ولا يزال مفصلًا في خريطة المنطقة من النيل الأزرق إلى كردفان ومن دارفور إلى النيل الأبيض كل شبر فيه يحكي قصة حضارات ويشهد على تحولات كبرى. أي انهيار فيه يعني هزة جيوسياسية تمتد أصداؤها إلى كل المحيط الإقليمي. هنا تتجلى مسؤولية القوى الإقليمية والدولية: حماية السودان لا تعني مجرد دعم طرف على آخر بل حماية فكرة الدولة نفسها ومنع انهيار يجرّ معه الشعوب والحدود والاستقرار.

الرهان الإنساني والسياسي يتقاطع هنا مع جغرافيا لا تغتفر. الدولة التي تنهار في السودان لن تكون مجرد حالة محلية بل صدمة تتفاعل معها مصر وإثيوبيا وجنوب السودان وبقية دول المنطقة. وهذا ما يجعل التحرك المصري صائبا وضروريا: حماية الدولة، ودعم مؤسساتها، والحفاظ على وحدتها الوطنية، ليس خيارا سياسيا فحسب بل ضرورة استراتيجية لضمان أمن المنطقة بأكملها.

السودان اليوم يختبر كل شيء صمود الدولة ووعي شعوبها وصدق التحالفات ونجاعة الحلول السياسية. وفي قلب هذه المعادلة يكمن الإنسان الذي يعيش المأساة ويرتجي الأمان ويرفض أن يكون مجرد رقم في سجلات النزاع. حماية الإنسان هنا ليست رفاهية بل اختبار حقيقي لجدية أي حل سياسي.

وأمام هذه الصورة يبقى السؤال الأكثر حدة: من يتحمل مسؤولية منع انهيار الدولة؟ من يضع مصالح الشعب قبل الحسابات الفئوية؟ من يرى السودان ليس مجرد ملف مؤجل بل قلب المنطقة النابض؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة لكنها ضرورية لكل من يؤمن بأن مستقبل السودان هو مستقبل المنطقة بأكملها.

في نهاية المطاف السودان لا يحتاج إلى متفرجين بل إلى فاعلين. لا يحتاج إلى شعارات بل إلى سياسات مدروسة. لا يحتاج إلى وعود بل إلى إجراءات تحفظ وحدته وتعيد بناء الدولة والمجتمع وتوقف نزيف الدم قبل فوات الأوان.

السودان اليوم يختبر إرادتنا جميعا. حين يضيع السودان لا يخسر وحده… بل يخسر الجميع.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة