حازم حسين

عن إخلاء الطريق بين الحليفين.. إنقاذ اتفاق غزة بوضع نتنياهو فى مواجهة خطة ترامب

الأحد، 21 ديسمبر 2025 02:00 م


كان ترامب يتطلع إلى إعلان ترتيبات المرحلة الثانية من اتفاق غزة قبل نهاية العام الجارى. وبينما يتحضر لعطلة عيد الميلاد، لا يبدو أنه بصدد الاحتفال بإنجاز وشيك حسبما يتمنى، وإن كانت الجهود موجهة بكثافة للقفز على التحديات القائمة بشأن الانتقال، وسد الفجوات بين طرفى الصراع، وأكبرها من جهة الاحتلال لا الفصائل على ما بات واضحا للجميع الآن، لا سيما أن حماس تُظهر إقبالا نسبيا على التداول فى القضايا العالقة، وأهمها تركيبة الإدارة المؤقتة وموضوع السلاح، وتتبقى لديها جثة وحيدة تجتهد فى الوصول إليها، ولا تشترط أكثر من الالتزام ببنود الخطة الأمريكية حسبما اتُّفق عليها، أقله فى الخطاب المُعلن من جهة ممثليها الرسميين.


نتنياهو لا يُريد تثبيت وقف إطلاق النار عموما، وهو لا يتوقف عن انتهاكه منذ اللحظة الأولى. وفى سبيل ذلك يتشدد فى المطالبة بالرفات الباقى، منصرفا عن إيجابية الجانب الآخر والتزامه بتسليم عشرات القتلى والأحياء بالفعل. يُلمّح إلى الاقتراب من عبور الفاصل بين المرحلتين، فيما يُصرّح رئيس أركانه بأن الخط الأصفر سيكون بمثابة حدود جديدة للقطاع وخط دفاع متقدم للاحتلال، وبين اللغتين يسعى إلى الإبقاء على التمركزات الحالية، وإطلاق عملية الإعمار فى الجانب الشرقى الواقع تحت سيطرته، فضلا على توريط قوة الاستقرار الدولية فى الصدام مع المقاومة تحت عنوان الإنفاذ لا حفظ السلام كما ينبغى أن تكون.


يرى بشارة بحبح، رئيس مجلس العرب الأمريكيين من أجل السلام، أن إسرائيل تعرقل تنفيذ الاتفاق وتضع العراقيل فى الطريق. الرجل قريب من جو الإدارة الأمريكية، وأنابته سابقا فى عقد لقاءات مع ممثلين عن حماس. وإذ يقول إن الحركة على استعداد للتفاوض بشأن نزع السلاح؛ فإنه لا يُخمّن غالبا أو يرجم بالغيب، بل يُجمّع الخيوط وينسج من حصيلة نقاشاته تصورا يستند إلى معلومات أو إفادات واضحة، لكنه يعتبر المشكلة فى منطق الحكومة الإسرائيلية ومساعيها لتلزيم المهمة إلى القوة الدولية، بدلا من إنجازها على طاولة الحوار والتوافق على خطوات إجرائية وعملية مُتبادَلة.


واشنطن تعرف قبل غيرها أن العُقدة مستحكمة فى تل أبيب. الوسطاء يطالبون بتفعيل النصوص كيفما صيغت فى الورقة المعلنة بعد لقاء ترامب مع ممثلى ثمانى دول عربية وإسلامية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكما استقر فى الصفقة مع حماس ومخرجات قمة شرم الشيخ للسلام.


الفصائل لا قدرة لديها على التعطيل أو اجتراح مسارات بديلة، والسلطة الوطنية مضطرّة إلى اعتماد الخطوات المرحلية المشمولة بوعود مؤجلة عن عودتها إلى القطاع، وبدء عملية سياسية قد تقود فى أفضل أحوالها إلى جولات ماراثونية طويلة من التفاوض على الدولة المستقلة وحق تقرير المصير. أى أن الضحايا قدموا كل ما يتوجب عليهم استباقيا، ومفاتيح الحل صارت معلقة فى أصابع الجناة.
والسؤال هنا ليس عن قناعة البيت الأبيض أو سلامة رؤيته للوقائع الميدانية وفى كواليس الاتصالات بين كل الأطراف، بل عن حدود الضيق الذى يستشعره إزاء نتنياهو وحكومته، وإلى أى مدى يمكن أن يدفعه باتجاه ترويض الاندفاعة اليمينية الصاخبة، أو الإملاء وفرض خياراتها من أعلى على الحليف المراوغ.


ولا شك فى أنها كانت وستظل ملتزمة بمصالح الدولة العبرية؛ لكن شعار «أمريكا أولا» يقتضى أن تُعيد ترتيب الأولويات نسبيا، فضلا على أن المصلحة الإسرائيلية نفسها لم تعد وثيقة الصلة بما يطرحه زعيم الليكود، ويتقدّم فيه التهرب من اتهامات الفساد والإخفاق ودفاعه عن مستقبله السياسى، على كل شىء آخر يخص الأمن والاستقرار وتبريد الخرائط السائلة وفرص تطبيع أوضاع دولته داخليا ومع محيطها القريب والبعيد.


وعندما أُعلن عن زيارة مُرتقبة إلى الولايات المتحدة، وفُسّرت على أنها استدعاء من ترامب لنتنياهو، أكثر من كونها دعوة اعتيادية فى ظروف طبيعية. استشعر مراقبو الاستعصاء الحالى أن الفريق الجمهورى يُسلّم حبل القيادة الإسرائيلية إلى الرئيس، مع ما تردد عن رسائل ساخنة حُملت إليه فى الأيام الأخيرة، ومفادها أنه حر فى تدمير سمعته؛ لكنه غير مُخيّر أصلا فى المساس بسُمعة صاحب الخطة وضامنها الأول. لذا كان غريبا أن يُصرّح ترامب قبل يومين بأن نتنياهو يريد لقاءه؛ لكنه لم يرتب الأمر رسميا بعد، وإن أبقى الترجيح قائما بشأن الاجتماع به فى فلوريدا خلال عطلة العيد.


الولاية نفسها كانت محور لقاء أهم، على ما نُشر فى متابعات إعلامية عديدة. وخلاصته أن مدينة ميامى كانت على موعد يوم الجمعة مع جلسة رباعية للوسطاء الضامنين لاتفاق شرم الشيخ، الولايات المتحدة ومصر وتركيا وقطر. وقال رئيس الوزراء ووزير خارجية الأخيرة، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثانى، إنها مخصصة لبحث الدفع بالمرحلة الثانية، وقد سبقتها جولة فى الدوحة يوم الثلاثاء الماضى، تركز الكلام فيها عن قوة الاستقرار الدولية المقترحة، وطبيعتها وتشكيلها وحدود تكليفها بالمهام الموكلة إليها، وكلها تفاصيل يكثر فيها الكلام اتصالا بموقف تل أبيب، وما تسعى إليه من تقويضها أو توجيهها سلفا وتفريغها من أى مضمون يُقنع المنخرطين فيها أولا، وثانيا والأهم أن يُعزز جهود حلحلة الجمود الراهن، ودفع الخطة قدما على طريق التسوية القابلة للثبات والاستدامة.


والحال؛ أن الصهاينة يسعون لإعادة إنتاج تجربتهم اللبنانية فى غزة على صورة أكثر حدّة ورداءة. ذلك أن اتفاق وقف الأعمال العدائية مع حزب الله كان ينص على الانسحاب من النقاط المحتلة بالتزامن مع تفعيل العمل على حصر السلاح فى يد الدولة جنوبى نهر الليطانى.


مرّت سنة كاملة، وأنجز الجيش ما عليه بحسب إفادة قوات اليونيفيل الدولية وشهادة المبعوثين الأمريكيين وغيرهم، وما يزال الاحتلال متمسكا بحضوره الثقيل وراء الخط الأزرق. مع فارق أن التدويل شمالا قائم منذ أكثر من أربعة عقود، وجرت حربا العام 2006 والإسناد والمشاغلة وكل الخروقات التالية فى وجوده، ما يعنى أنه مُحيّد عمليا منذ أمد طويل. بينما المسعى جنوبا للإفلات من استحضاره بالأساس، أو أن يكون موجها مع وضع أقدامه فى القطاع، بما يُرشد أثره السياسى والقانونى، انطلاقا من وضعه فى مواجهة الفصائل، بدلا من أن يكون رقيبا وحجة على الطرفين معا.


والأصل فى قوة الاستقرار أنها ذراع تنفيذية لمجلس السلام، وتكتمل الثلاثية بإدارة مدنية غير فصائلية، تعاونها شرطة نظامية من القطاع ممن دربتهم مصر والأردن، أو يجرى تدريبهم وتأهيلهم لاحقا مع بدء العمل على المرحلة الثانية.


أى أن الجانب السياسى يتولاه المجلس بتفويض من ضامنى الاتفاق، والشق التنفيذى بما فيه من مكون أمنى يقع على عاتق التركيبة الفلسطينية، ولا صفة تنفيذية مطلقا للقوات الدولية، بل هى مجرد جهة مراقبة وحفظ. والدليل أنه مع بدء نشرها، يتوجب على الجيش الإسرائيلى أن يتراجع من الخط الأصفر إلى الأحمر، وأن تنطلق جهود التعافى والإعمار على كامل الجغرافيا بجهد مشترك من مجلس السلام والإدارة المدنية.


وذلك؛ بالتزامن مع التوصل إلى آليات عملية بشأن السلاح فى الجزء الغربى من القطاع، وما إذا كان سيُنزع أو يُجمّد أو يجرى التحفظ عليه ضمن ترتيبات أمنية وإجرائية تتولد عنها تهدئة طويلة مع الاحتلال، أكان بمنطق الهدنة كما تطلبها حماس، أم من روحية الخطة التى تتحدث عن ولاية انتقالية مدتها سنتان، يتبعها تمكين السلطة الوطنية وتوحيد مؤسسات الدولة بين غزة ورام الله.


وعليه؛ فالتزامات إسرائيل واضحة بموجب بنود خطة ترامب، ولا وجه فيها للتعديل أو التأويل. لا سيما أن البند السابع عشر يُعالج احتمالات التلكؤ من جانب حماس، بالإشارة إلى إمكانية تشغيل مسار الإعمار فى بقية المناطق خارج سلطة الحركة، ما ينسف أية حجّة لدى نتنياهو فى التمسُّك بخطوط الانتشار الحالية. فالتراجع للوراء لم يُنَصّ عليه كمُعادلٍ مُتزامن مع نزع السلاح؛ بل خطوة موازية لبدء انتشار القوّات الدولية، وحال المساحة غربىّ الخط الأصفر لا علاقة لها مُطلقًا بزحزحته المُتدرّجة وفق الخريطة المُعتمدة للاتفاق.


وبعيدًا من المُخطّط الزمنى وتراتبيّته؛ فالواقع أن الحماسيين وغيرهم فى حاجة إلى التطمين، خصوصا مع انتفاء قدرتهم على التعطيل كما هو ثابت للعيان. وإن انتظمت المراحل المُتتابعة بالانسحاب فالإعمار؛ فلن تكون الحركة وبقية الفصائل فى رفاهية التناطُح مع الرؤية المُبشّرة بتأهيل المناطق المُدمّرة وإعادة تطبيع حياة الغزيين مُجددا.


وإذا كان القبض على السلاح دفاعا عن المكانة التنظيمية؛ فإنها ستتآكل تدريجيا بتخليق البديل المدنى من داخل القطاع موصولاً بالجسر الموعود مع السلطة الوطنية، أما لو كان لخشية من عودة الاحتلال إلى القتال ثانية؛ فلا شىء يُسقط الفرضية أكثر من دفع العدو إلى الوراء، وتثبيت وقف إطلاق النار بما لا تُحتَمل العودة فيه أو الانقلاب عليه لاحقا.


وبقدر ما تبدو المسألة واحدة؛ فإنها أحوج ما تكون إلى التجزئة وفصل المسارات. نتنياهو يسعى من جانبه إلى تقسيمها بالذريعة والاحتيال على البنود، ولا سبيل لدى الوسطاء إلا بالقسمة على معيار بديل. وإن كان مُصرًّا على ربط الجثة الباقية بالسلاح والخط الأصفر؛ ليتيسّر له البقاء واختراع غزة الجديدة على حساب نسخة قديمة، كئيبة وطاردة؛ فالمَخرَج من ذلك عبر الوقوف على خطّ فاصل بين الطرفين: نشر القوّة مقابل تراجع الاحتلال وبأدوار تحفّظية لا تنفيذية، وتوسيع مدى الإعمار ربطا بالتوافق على ملف السلاح، فلا تعود المُقايضة بين تل أبيب وحماس، بل من كل واحدة منهما على حِدة، مع مجلس السلام وقوّة الاستقرار والإدارة التكنوقراطية والضامنين.


لدى الإدارة الأمريكية ما تُقايض نتنياهو عليه، فى العام المُتّصل بالمؤازرة المباشرة أو توفير الغطاء السياسى، وفى الخاص الذى يبدأ من تعزيز موقفه داخل الائتلاف ومع مناوئيه من خارجه، ولا ينتهى بالضغط لانتزاع قرار بالعفو عنه فى جرائم الفساد الثابتة بحقّه. الخطة تخص ترامب وتحمل اسمه، ونجاحها يعنى له الكثير عاجلا وآجلا؛ والدائرة العربية استوفت حظّها من الاشتباك معه قبل إعلان الاتفاق أصلاً، وتلتزم بأفكاره وتقف على مُحدّداته وخطوطه العريضة، ما يجعل فرصة الصدام أقرب مع الحكومة الإسرائيلية من أى طرف آخر.


سيحدث الانتقال فى كل الأحوال؛ لأن واشنطن تُريد المضىّ قدمًا بالنجاح الوحيد الذى يُمكن تسويقه حتى الآن من حصيلة سنة لإدارة ترامب الثانية. الوسطاء لا يتزحزحون عن ثوابتهم الكُبرى، والقوّة الدولية لن تتجسّد دون مظلّة واضحة محلّ اتفاق.


نتنياهو عند نقطة مُعيّنة سيُسلّم للموجة العالية؛ لأنه لا يقدر على تحدّى الرغبة الأمريكية. والأزمة ليست فى بدء الانتقال من المرحلة الأولى للثانية؛ بل فى استدامة المسار وألا يتعرّض للإرباك والتعطيل لاحقا، ما يفرض على الجانب الفلسطينى أن ينتهى من حسم النقاط الأساسية كافة، وأهمها أن الإدارة المؤقتة بوّابة لعودة السلطة للقطاع من جديد، وأن السلاح يجب ألا يكون حجر عثرة فى الطريق؛ مهما كانت التضحيات المطلوبة ماديا ومعنويا، وكل تنازُل يصب فى صالح القضية، لا يصح النظر إليه من زاوية التخاذُل والتفريط، وهو أثمن قطعًا من كل ادّعاء للصلابة يُمكّن العدو من إنفاذ إرادته، أو يُولِّد له الذرائع بكرمٍ لا يُشَكّ فى بؤسه؛ ولو افترضنا فيه حُسن نيّته، وقد جُرِّب بكثافة منذ الطوفان ولم تنقطع مآسيه حتى الآن.


نتنياهو ذهب للاتفاق راضخًا لا راضيًا، ولا يُحب له أن يكتمل بحماس أو من غيرها. والحركة مدعوّة للنظر فى كل الاحتمالات بعقل بارد، يجب ألا يتقدّم فيه شىء على إخراج الاحتلال، وفتح أبواب الأمل لغزّة والغزيين، واستدعاء الشرعية الوطنية لتكون مظلّة بديلة عن خيارات كلها سيئة: بقاء الاحتلال، أو تمديد الوصاية الدولية، أو دخول حقبة طويلة من الفوضى والقلاقل الاجتماعية والأمنية.


يوشِك أسوأ رؤساء حكومات إسرائيل على التصادم مع أكثر رؤساء الولايات المتحدة دعما لها. ولا تحتاج جهدًا كبيرًا لتكتشف أن خطة ترامب الأخيرة أكثر تقدّمًا مِمّا طُرح فى هُدنة يناير وما بعدها من أفكار، وأن مواقف الإدارة أعلى وأشد سخونة من سابقتها، وبات الرئيس يتحدث علنًا عن تآكل مكانة تل أبيب فى واشنطن، وعن تحول الكونجرس، وأنه يضيق شخصيا ببعض ممارسات صديقه «بيبى».


وكلها إشارات إلى إمكانية توظيف النهم الأمريكى لاصطناع نجاحات تُضاف لسجلّ الإدارة؛ لا سيما قبل الانتخابات النصفية، فى ترويض الحليف المُتمرّد جزئيًّا، أو تحفيزه على إعلان تمرّده صراحةً، مع ما يترتب على ذلك من ضغوط أقسى وتداعيات أكبر.


الوسطاء يُديرون الملف بتعقُّل وكفاءة، والحماسيون عليهم أن يفرزوا الأصيل من العارض، ويعرفوا متى يشدّون الحبل أو يُرخونه، وبعدما تتحرك الأوضاع الميدانية ويكتمل طابع التدويل؛ لن تكون هوامش الصهاينة مُتّسعة كما هي اليوم، ولا فُرص انقلابهم على التسوية مُمكنة من دون تكاليف باهظة، ومخاطر قد لا تُتيح لهم مجرد التفكير فى الأمر من الأساس.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة