لقاؤنا الأول، أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان فى مدرج مجاور لقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة.. كان عائدا من الولايات المتحدة، وكان يدرّس لى مادة النقد الحديث.. وكنت تلميذا مشاغبا، أكتب الشعر، وأعتدّ بما أتصوره مفاهيم صحيحة عن الأدب والنقد. عندما فتح باب النقاش تحدثت مختلفا معه، مؤيدا حديثى بالأسانيد، وظل هو مبتسما. بعد المحاضرة ناداني، وتعرّف عليّ، وشجعنى على الاختلاف. من يومها توطّت الصلة بيننا. (وبعد المحاضرات الأولى، وكان قد قرأ بعض قصائدي، اصطحبنى لتسجيل حلقتين بالإذاعة عن شعرى مع الأستاذة هدى العجيمي).. لمرة واحدة، فى محاضراته، ضاق باختلافي، وسخر من ردّى عليه.. فقاطعته وأنا بداخل المدرج على الفور: أخرجت ورقة وبدأت أرسم، وقد لاحظ هذا بوضوح، وكنت جالسا فى الصف الأمامى (كنت أجلس هكذا فى محاضراته، أنا الذى أختار الصفوف الخلفية فى أى مكان فيه صفوف للمقاعد).. بعد المحاضرة ناداني، وطيّب خاطري، وقال لى ما معناه: لا تتضايق.. وتحدث عن أهمية مشاركتى بالنقاش، وأن "الطالب اللمض بيخللى الأستاذ يحسّ بروح المحاضرة"..
من ذلك التاريخ البعيد، ولسنوات طويلة فيما بعد، خلال الصلة التى لم تنقطع، كنت أغيب أحيانا، ويسافر هو أحيانا، لكن التواصل ظل قائما. "إنت ياعم حسين ما بتسألش ليه عن أستاذك.. هوه موش برضه أنا أستاذك واللا إيه؟".. كانت هذه عبارته فى بعض المكالمات عندما تطول فترة الغياب. وتعبيرات "ياعم حسين"، و"ياحسين"، و"ياحبيبنا" و"ياراجل ياطيب".. كانت تتردد فى بدايات مكالماتنا، وتتنوع حسب الرسائل التى يريد توصيلها لي.
بعد اللقاء الأول بفترة قصيرة دعانى إلى منزله القديم. جلسنا فى البلكونة الطويلة التى سوف نجلس بها مرات عديدة شهدت أحاديث مطولة، ومن هذه الأحاديث نصائح قدمها لى وهو متيقن من أننى لن أعمل بها.. "طول عمرك ها تفضل خايب".. عبارة قالها لى غير مرة. وغير مرة أخذنى من يدى لنزور الدكتور فيصل يونس (هوه مريض ولازم نزوره.. ها تتبسط لما تتعرف عليه)، أو لنذهب إلى ندوة، أو للقاء الشاعر الراحل محمد صالح.. وفى البلكونة نفسها جلسنا قبل سفره إلى السويد، وباح لى بما لم يبح به من قبل، وحدثنى عن أستاذه النبيل الدكتور عبدالعزيز الأهوانى الذى كان له بمثابة "أب" حقيقى ممتلئ بالحنوّ، وعن "أمّه العلمية"، الدكتورة سهير القلماوي، وعن آخرين وأخريات..
***
فى المسيرة الحافلة التى قطعها، وفى المساحة الرحبة التى استكشفها لحضوره الثقافى والنقدى الكبير خارج أسوار الجامعة، ظللت قريبا منه فى أماكن شتى: فى المجلس الأعلى للثقافة (القديم والجديد)، وفى مقر مجلة "فصول"، وفى دار الكتب، وبدرجة أقل فى المركز القومى للترجمة... كان يأتنس بصراحتى فى إبداء آرائي، ويقدّرها، ويراها أكثر جدوى من عبارات المجاملة السريعة والسهلة التى يسمعها غالبا. وخلال هذه الأماكن شهدت معه الكثير من المشاهد، واستكشفت الكثير من كفاءاته الإدارية، ولمست الكثير من القيم التى انطلق منها وآمن بها.. وبمناسبة المجلس الأعلى "الجديد"، صعدت معه، أثناء تشييد مبناه، على "السقالات"، وهو يتفقد أعمال البناء، ويقدم اقتراحاته للمقاول، وكأنه يبنى بيته الخاص.. وقد أصبح المجلس، بالفعل، بيتا له، ولكنه جمع فيه ما من يصعب الجمع بينهم، من أهل الإبداع والثقافة، من مصر ومن البلدان العربية ومن غير البلدان العربية.
***
ظل طوال معرفتى به محمّلا بطاقة هائلة على العمل، وبقدرة هائلة على التفاؤل، وبروح بسيطة محبة للحياة.. وقد تصورته دائما (شأنه شأن برج الحمل) غير بعيد عن روح "الطفولة".. فى زمن متأخر، عندما كنت أقول له إنه يشبه ابنتى وأختى (من البرج نفسه) فى هذه الوجهة، كان يتضايق قليلا: "ماشى يا فالح.. خلّيك فى خزعبلاتك".. وظل تفاؤله الدائم سمة ثابتة من سماته. مرات قليلة شهدت انكساره بعد فقد مقرّبين ومقرّبات إليه: صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، ومحمد صالح، ونصر أبو زيد، وعلى أبو شادي.. ولكن الانكسار الأكبر كان مع رحيل ابنته سها.. لكنه كان يتجاوز الانكسارات بسهولة وبسرعة وبالاستعانة بالعمل الدائب.. وقد ساعده على تجاوز رحيل ابنته أن ابنه أحمد قد تزوج وأتى له بالحفيدة الأولى، التى ساعدته كثيرا على التماسك والعودة إلى تفاؤله الثابت المقيم.. وكثيرا ما حدثنى عنها وعن سعادته الغامرة بها.
طاقته الكامنة هذه كانت تظهر فى مواقف كثيرة، وكانت تتدفق مع مشاهد الكتب.. رأيت هذا فى تعامله معها فى مكتبة بيته القديم والجديد، وفى دار الكتب، وأيضا فى "سور الأزبكية" الذى ذهبنا إليه مرة معا: كان يقلّب الكتب بشغف عظيم.. وتقريبا يرى الورق كائنات تنعم بالحياة..
***
الندوات التى شاركت فيها عن أعمال له، فى هيئة الكتاب، وفى مكتبة القاهرة بالزمالك، وفى معرض الكتاب بمكانيه القديم والجديد، كان متسامحا فيها مع كل ما أقول.. سعيدا بأنه "ربّى تلميذا قادرا على الاختلاف مع أستاذه".. لكنه، بعد الندوات، كان يفتح أبوابا لنقاشات فيما بيننا.. لم تنته أبدا.
***
غير مرة عرض على بعض المناصب، ورفضتها.. وتقبل ذلك على مضض.. لكن فى إحدى مكالماتنا، قبل حوالى شهر من رحيله، قال لي: "تصدق إنك مع خيابتك كنت صحّ؟.. إنت ريّحت نفسك من وجع الدماغ".. وفى المكالمات نفسها كانت نبرة صوته تحمل قدرا طفيفا من الألم.. "ياعم حسين أنا بقيت فوق الخمسة وسبعين".. وأنا انفعل صوتي: "إيه يعنى خمسة وسبعين.. الأستاذ نجيب عدّا التسعين وكانت صحته زى الفل.. المهم حضرتك تاخد بالك من صحتك وتلتزم بتعليمات الأطباء".. وهو ضحك.. وقال إنه ملتزم..
***
الدور الذى قام به فى حياتي، كأستاذ لي، يكفى لكى يجعله باقيا معى فيما تبقى لى من فترة للعيش فى هذه الحياة... ولكن الأدوار الثقافية والنقدية الكبرى التى قام بها، فى مصر والوطن العربي، تجعله باقيا لدى كل من عرفوه، أو اقتربوا منه.. وطبعا مع كل من قرأوا أعماله المشهودة التى صاغت نتاجه الغزير.. الذى نجح فيه نجاحا باهرا فى أن يتخطى أسوارا كثيرة، وأن يصل الكتابة بأسباب الحياة التى لا تكف عن التدفق والتجدد، وأن يدافع عن قضايا أبدية تستحق الدفاع عنها فى كل عصر وكل أوان...
(فقرات من "كتاب الراحلين المقيمين")