تعد اللغة العربية مشروع وعي، ومنظومة قيم، وقوة دافعة حضارية، نحن في حضرة هوية تتكلم، وذاكرة تنطق، وحضارة ترفض أن تختزل في الماضي أو تحبس في المتاحف، إنها لغة ولدت للإنسانية جمعاء، فسكنت العقل، واستقرت في الوجدان، ثم ارتقت حتى حملت آخر رسالات السماء إلى الأرض، فصاغت علاقات متوازنة بين العقل والإيمان والعمران، فاللغة العربية لغة بناء وسؤال وحضارة؛ بها تشكلت أنماط التفكير، وتأصلت القيم، وتأسست رؤى الإنسان للعالم والوجود، فهي اللغة التي أنتجت معرفة، واحتضنت الفلسفة، ودونت العلم، وأقامت جسور الحوار بين الشعوب والحضارات، وإن الدفاع عنها دفاعًا عن قدرة الأمة على أن تفكر، وتبدع، وتستمر.
وتمثل اللغة أحد أعمدة السيادة غير المنظورة للدول، فهي المجال الذي تتشكل فيه العقول قبل السياسات، وحين تضعف اللغة في الفضاء العام، يمتد الأثر إلى ضعف الانتماء، وتفكك الذاكرة الجمعية، واهتزاز منظومة القيم، لتصبح الهوية الوطنية قابلة لإعادة الصياغة من الخارج، عبر تيارات ثقافية وافدة تعيد تشكيل الوعي والسلوك والذوق العام، ومن هذا المنظور، تعد اللغة قضية أمن ثقافي بامتياز، حيث تتبوأ اللغة العربية موقع القلب في منظومة الأمن الثقافي العربي والإسلامي؛ فهي وعاء للفكر، وبنية للعقل، ونظام لصياغة الرؤية إلى العالم، وقد أسهمت خصائصها التعبيرية والتركيبية في تشكيل نمط خاص من التفكير، يقوم على العمق، والدقة، والترابط بين اللفظ والمعنى، وهو ما جعلها قادرة على حمل خطاب ديني وأخلاقي ومعرفي متكامل، واكتسبت العربية مكانتها العالمية لأنها لغة رسالة موجهة إلى الإنسانية جمعاء، تحمل مشروع هداية، وقيم عدل، ورؤية إنسانية شاملة.
وبنزول القرآن الكريم بلسان عربي مبين، منح العربية قداسة وحملها مسؤولية تاريخية وأخلاقية كبيرة، بأن تكون لغة القيم، والعدل، والرحمة، وأن تؤدي دور الوسيط بين الوحي والإنسان، ومن ثم ارتبطت العربية بالهوية الإسلامية ارتباطًا عضويًا، فهي لغة الوحي، والعبادة، والمعرفة الدينية، وظلت منفتحة على العالم، قادرة على استيعاب الثقافات، وترجمة المعارف، والتفاعل الخلاق مع الحضارات المختلفة، دون أن تفقد خصوصيتها، ويعد حماية اللغة العربية، وتوطين استخدامها في مجالات التعليم، والإعلام، والتقنية، والمعرفة، استثمارًا في الحاضر وضمانًا للمستقبل، فهي معركة وعي قبل أن تكون معركة ألفاظ، ومعركة سيادة ثقافية قبل أن تكون مسألة لغوية، وبذلك تصبح العربية خط الدفاع الأول عن الهوية الوطنية، وسياجًا واقيًا يحفظ المجتمع.
ويتمثل التحدي الأخطر الذي يواجه اللغة العربية اليوم فيما يمكن تسميته بالإقصاء الناعم من دوائر الفعل المعرفي وصناعة المستقبل، فهذا الإقصاء يتسلل عبر اختزال العربية في الماضي والحنين، أو حصرها في الوظائف الشعائرية والتعليمية التقليدية، مع إبعادها تدريجيًا عن ميادين الإنتاج العلمي، والتقني، والاقتصاد المعرفي، وبهذا تصبح اللغة حاضرة شكليًا وغائبة وظيفيًا، وهو أخطر أشكال التهميش؛ لأنه يفرغها من دورها الحضاري دون أن يثير مقاومة واعية.
ويتضاعف هذا الخطر في عصر الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح بنية معرفية شاملة تعيد تشكيل أنماط التفكير، وطرق إنتاج المعرفة، وصناعة الرأي العام، والذوق الثقافي العالمي، فاللغة التي لا تحجز موقعًا مركزيًا داخل منظومات الذكاء الاصطناعي، تستبعد تلقائيًا من معادلة المستقبل، وتتحول إلى لغة مستهلكة للمعرفة لا منتجة لها، وغياب العربية، أو ضعف تمثيلها داخل النماذج اللغوية والخوارزميات الذكية، يعني نقص في المحتوى، وخضوع الوعي العربي لمنظومات لغوية وقيمية أخرى تعيد تشكيل رؤيته للعالم، وتعيد تعريف مفاهيمه، وتفرض عليه سرديات لا تنبع من تاريخه ولا من منظومته الثقافية.
وتنتقل قضية اللغة من كونها شأنًا ثقافيًا أو تعليميًا إلى كونها مسألة أمن ثقافي وهوية وطنية، فالأمم التي لا تمتلك لغتها داخل الخوارزميات، تفقد تدريجيًا قدرتها على التحكم في خطابها، وتمثيل ذاتها، والدفاع عن خصوصيتها، وتغدو تابعة حتى وإن امتلكت أدوات مادية للقوة، ويطرح هذا الواقع سؤالًا: هل نمتلك الإرادة السياسية والثقافية والمعرفية لإدماج اللغة العربية في قلب هذا التحول العالمي؟ فالعربية، بما تمتلكه من نظام اشتقاقي بالغ الثراء، ومرونة دلالية عالية، وعمق مفاهيمي نابع من تراكم معرفي طويل، مؤهلة علميًا لأن تكون لغة فاعلة في بيئات الذكاء الاصطناعي، إذا ما توافر الاستثمار الجاد في اللسانيات الحاسوبية، وبناء قواعد بيانات لغوية منضبطة، وتطوير نماذج معرفية تراعي خصوصيتها البنيوية والثقافية.
فاللغة لا تضعف لعجزٍ ذاتي، وإنما تضعف حين يتراجع أهلها عن استخدامها في ميادين القوة، وجميع اللغات التي تتصدر المشهد العالمي اليوم لم تفعل ذلك لأنها أسهل أو أجمل أو أعرق، بل لأنها ارتبطت بمشاريع حضارية واضحة جعلتها لغة العلم، والإدارة، والإعلام، والبحث، والتكنولوجيا، ومن بالتالي يبدأ الاحتفاء الحقيقي باللغة العربية من التعليم، حين تتحول إلى أداة للتفكير النقدي، ولغة تحليل وبحث وإبداع، وحين يتاح للمتعلمين أن يفكروا بالعربية في العلوم، لا أن يترجموها بعد التفكير بلغة أخرى.
ولا يمكن فصل قضية اللغة عن قضية الهوية الوطنية؛ فاللغة هي الوعاء الذي تصاغ فيه الذاكرة الجمعية، وتتشكل من خلاله منظومة القيم، ويعاد إنتاج الانتماء، والتفريط في العربية، أو تهميشها، يفتح الباب أمام تشوهات ثقافية، وازدواجية في الوعي، وانفصال متزايد بين الأجيال وهويتها، ومن ثم، فإن الدفاع عن اللغة العربية هو دفاع عن حق الأجيال القادمة في أن تفكر بلغتها، وتبدع بلغتها، وتشارك في الحضارة الإنسانية من موقع الفاعل.
وتتسق هذه الرؤية بصورة وثيقة مع رؤية مصر 2030 التي تنطلق من بناء الإنسان المصري محور التنمية وغايتها، وترتكز على تعزيز الهوية الوطنية، وتحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، وفي هذا الإطار، تمثل اللغة العربية ركيزة أصيلة من ركائز الأمن الثقافي والسيادة المعرفية، وهما عنصران حاسمان في حماية الوعي الجمعي من محاولات الاختراق، والتشويه، والتذويب في عصر العولمة الرقمية المتسارعة، ومن ثم، هناك ضرورة لمشروع متكامل يعيد إدماج اللغة العربية في مسارات التحول الرقمي، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وبناء الاقتصاد المعرفي، باعتبارها أداة للإنتاج المعرفي، وصناعة المحتوى، وتوليد المعرفة، فتمكين العربية في الفضاء الرقمي هو تمكين للعقل الوطني، وضمان لاستقلال القرار الثقافي، وصيانة لقدرة المجتمع على التعبير عن ذاته بلغته وقيمه.
إن الاستثمار في تطوير اللغة العربية رقميًا، وتعزيز حضورها في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ومعالجة اللغات الطبيعية، وقواعد البيانات الضخمة، وصناعة المحتوى المعرفي والعلمي، ينسجم بشكل مباشر مع مستهدفات رؤية 2030 في مجالات الابتكار، والحوكمة الرشيدة، وبناء مجتمع المعرفة، وتعزيز التنافسية الدولية، وهو في الوقت ذاته يؤكد أن التنمية المستدامة تتحقق بالبنية التحتية أو المؤشرات الاقتصادية وببناء وعي ثقافي متماسك، وهوية قادرة على التفاعل مع متغيرات العصر، ونؤكد أنه حين تستوطن اللغة العربية قلب المشروع التنموي، وتدمج بوعي في سياسات التعليم، والإعلام، والتقنية، والبحث العلمي فإنها ستثبت، كما أثبتت عبر تاريخها الطويل، أنها لغة قادرة على حماية الهوية الوطنية، وترسيخ الأمن الثقافي، والمساهمة الفاعلة في تشكيل مستقبل مصر الرقمي والمعرفي، وبذلك، تتحول العربية لقوة فاعلة في معادلة التنمية ولغة للمستقبل، تحمل الوعي الوطني إلى آفاق أرحب من الإنتاج والابتكار والريادة.
_
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر