فلسفة قيم الحداثة تنطلق من تحولات تبنتها كثير من المجتمعات، وصارت ممارساتها في الحياة بمثابة العادة القائمة على قناعة فكرية تكرست في الأذهان، حتى باتت من النسيج الثقافي الذي يتبناه الأفراد؛ حيث هنالك تخلي مبرر عن صورة الجماعية، وتمسك بماهية الفردية في شتى أنماط المعيشة؛ ومن ثم أضحت الاستقلالية عنوانًا عريضًا، يأتي من خلفه العديد من المفاهيم ذات الصلة، منها حرية التعبير عن الرأي، وتحقيق الذات عبر بوابة التعليم في خضم صيغه المختلفة، والالتحاق بالعمل الذي يتناسب مع ما يمتلكه الإنسان من خبرات نوعية.
النظرة إلى الماضي تبرهن عن رغبة جامحة في تكوين هيكل اجتماعي لا يشابه، أو يناظر الهياكل الاجتماعية في إطارها التقليدي؛ إذ تتنامى لغة المنطق المشجع على اتباع كل جديد، وهجر كل قديم، وهنا لا غرابة في سهولة استبدال القيم المعززة للتشاركية، والداعمة لأطر الاندماج؛ لتصبح قيم الحداثة المتمثلة في الفردية، وحرية التعبير، والمساواة بين الجنسين، والتفكير الناقد، والابتكار والتجديد، وقبول التنوع والاختلاف، والمشاركة المدنية، وتحقيق الذات، والمساءلة والمسؤولية الشخصية، وهنا لا معنى حقيقي لقيم تقليدية من وجهة نظر تتبنى الحداثة؛ فيضعف التضامن الأسري، والاحترام المتبادل، والوفاء بالواجبات الأسرية، والكرم، والتسامح، والولاء الأسري، وحماية السياج الأخلاقي.
بناءً على ما تقدم، نستشعر المخاطر المهددة للاستقرار الأسري؛ فقد يندر توافر المقاومة التي تزيد من لحمة ووحدة العلاقة، خاصة بين الزوجين، وهنا يصبح الجانب العاطفي أسيرًا للضغوط، ورهينًا للتوترات، وتشكل التحديات الاقتصادية حجر عثرة، تتوقف عندها مجريات الحياة، كما أن طرائق التوصل قد تتعطل؛ نتيجة لنمط التفكير الأحادي أو الفردي؛ لذا لا تتوقع حالة من التوازن بين أفراد الأسرة الواحدة؛ لأن صور الدعم النفسي غائبة، والمقدرة على التكافل من أجل تحقيق الأمان المادي لا مكان له في حسابات أفراد تبحث عن ذاتها؛ فلا شراكة في مواجهة الأزمات، ولا وجود لمناخ مواتي يشعر الإنسان بالطمأنينة، جراء تموجات الأزمات بكافة أشكالها الحياتية والعملية.
الفجوات الناجمة من تبني قيم الحداثة، تتسع بشكل واضح في صور العلاقات الزوجية خاصة في الوقت الراهن؛ لأن معالجة الخلل لا يقوم على تفكير جمعي؛ إنما نرصده في وجهات نظر فردية، ومنظومة تفكير ناقد، يعتمد على فلسفة المصلحة الخاصة، وهذا بكل أسف يضير بشدة بالجانب العاطفي، لدى طرفي العلاقة السامية؛ حيث لا يشعر أحد بمستويات الرضا، ولا يرى العدالة في توزيع المهام، وهنا تحدث المراجعات، التي يحاول من خلالها كل طرف أن يحقق أكبر قدر من المكاسب ولو على حساب الآخر؛ لأنه لا معني ولا مغزى لفكرة التضامن والواجب الأسري؛ ومن ثم يؤدي ذلك إلى فشل استمرارية العلاقة؛ ليحدث الانفصال المرتقب دون أدني شعور بالندم.
قيم الحداثة تضعف بشكل واضح شبكة العلاقات الأسرية، وتقوض آليات التواصل، وتكرس من سلبيات الضغوط، وتغلق أبواب التفاهم، وتحد من تفعيل قيم الإيثار والمقدرة على التحمل والصبر، بل، تزيد من الشعور بالظلم؛ لذا تتداعى المبررات التي تحث على فك العلاقة الزوجية، بغض النظر عن الخسائر، أو السلبيات، أو الآثار العائدة على الطرفين، وهنا نتوقف على ما يشير إليه الواقع المعاش؛ حيث كثرة حالات الطلاق أو الانفصال جراء فقد التوافق، وتفاقم الضغوط النفسية منها والاقتصادية، ناهيك عن تدخل الأهل الذين لا يحاولن رأب الصدع، ويساهمون في زيادة لهيب الخلاف واتساع دائرته.
إدراك مخاطر تبني قيم الحداثة على حساب منظومة القيم النبيلة، نحصد أثرها في أجيال من المفترض أن تمسك براية التنمية والنهضة لهذا البلد الأمين؛ لذا علينا أن ندق ناقوس الخطر وجرس الإنذار؛ لننتبه لطوفان المعتقدات المستوردة، أو التي تسببها الانفتاحات؛ كي نتصدى بأدوات تنمية الوعي الأسري، ونعمل بصورة ممنهجة ومقصودة على تعزيز قيمنا الراسخة، ونحرص على تفعيل برامج تأهيل الأفراد قبل خوض غمار بناء أسرة؛ ليعي الفرد أن العطاء دون مقابل، يشكل أعمدة قيام الكيان الصغير، القادر على المشاركة في تقدم وازدهار هذا الوطن.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.