قد يعيش الإنسان سنوات طوال خالية من معاني الحياة، يعيش وأنفاسه تتردد في صدره، علامة على أنه حي، ولكنه في حقيقة الأمر إنما هي أنفاس تتلاشى في الهواء، لا تحمل من كتلة اللحم والدم سوى وهم، بأنه على قيد الحياة، فيعيش ميت ولا تضيف الحياة له شيء، إذ هو بالفعل ميت، فمنذ أن ولد تتسرب الحياة من بين يديه، ولا يفطن لمعنى واحد من معانيها، فلا يخالط قلبه جمال، ولا يطرأ على ذهنه حقيقة واحدة من حقائق الحياة، يعيش على هامشها، ويموت ولم تخطو قدميه خطوة واحدة نحوها، ولا يقترب منها، فيموت موت البعير، الذي يضرب في صحرائها وشظفها، يقتله ظمأ التيه في دروبها الوعرة.
وقد يعيش آخر سنوات، ويموت في شرخ الشباب، وقد أمتلأت أيامه القليلة بالحياة، فلم يمر يوم إلا وهو مشحون بها، مكدس بنبضاتها، كل يوم يمر، هو حياة جديدة، وعمر إن حسبناه بعدد الأيام والسنوات، فهو أعمار كاملة، تمر أيامه وهو مشحون بحقائق ومعارف، يتقلب بين أعماره الكثيرة، ينهل من هنا وهناك، يفك شفرات الألغاز بيده، ويتعمق في روح الحياة، ليجمع ما تفرق في سنوات، يرتشفها جرعة مباركة من فيض الحياة.
وما بين الاثنين بون بعيد، بين معرفة الحياة، والجهل بها، بين سنوات طوال خالية من العيش، وبين أيام قليلة ممتلئة بالحياة، ذلك هو الشعور، والفرق بين الشعورين فرق سنوات وقرون، فالسنة في عمر الشعور سنوات كثيرة، قد تمتد لقرون، وما خلا من الشعور، فهو قليل وإن امتد لسبعين أو ثمانين أو حتى مائة عام، فهو صحراء قاحلة، والأخرى وإن قلت سنواتها، فهي جنات وعروش، ففي النموذج الأول يعيش أكثر الناس حياتهم، ولا مزيد عن الموت حيا، إذ لم يرى من الحياة غير قشرة ضئيلة، لا تُغني شيء عن معرفتها، لم يُنقب ولم يقتحم أعماقها، ليكتشف ما بها من كنوز وجواهر، حين يقف منها موقف الخائف الوجل، الذي يظن أن السلامة في تحقيق مآربه القريبة، من طعام شراب، ونزوات عابرة، وحين يتكاسل عن التفكير، فيما يحيط به، ليتعلم ويغذي الجانب الأهم في نفسه، وهو الروح، ذلك هو عمر اللحم الذي ينتهي إلى التعفن والفناء، بعد أن عاش عبد بطن وفرج وحواس، أما الآخر فهو فهو الحر، وإن قصرت سنوات جسده على الأرض، وقد أمتلأت روحه بأعمار كثيرة، وسبحت روحه في عوالم، ما ماضي وحاضر ما يحيا ومستقبل يستشرفه، وقد حلق في أفاق علوية، بجناحيه نحو الكواكب والأجرام، وأرتفعت حتى أعالي السماء، كلما أزدادت معرفته بماهية الحياة، وحقيقة جوهرها، وما كمن فيها من أسرار وحكايات، فهناك إذن مقياس أخر، غير مقياس السنوات والزمن والأفلاك، إنما هو مقياس الشعور، فبقدر شعورك، يكون عمرك، وبدونه لا عمر يُحسب لك، ولا حياة وإن طالت سنوات بقاءك على الأرض ونلت ما نلت من قشورها، فأنت في عرف الحياة غير موجود، والسؤال هنا كيف يمتليء شعوري بالحياة؟ يمتليء حين تكشف ببصيرتك كل يوم عن جديد، عن إضافة تضيفها لروحك، عن معنى ترصده وتستخلصه من مواقف الحياة، التي تقابلك كل يوم وكل ساعة، وتراه وتتفحصها وتتأملها ليزيد رصيدك من الحياة، فلا تمر عليك مرور الأعمى، الذي لا يبصر شكلا ولا لون، وقد يكون الأعمى بصير حين يتأمل بقلبه وعقله، ويستمع وينصت بأذنيه، ويُرهف مشاعره، للتتلقى الحياة، زادا زاخرا، يعوضه عن فقد بصره، حياة جامحة لا يقيدها فقدان بصر، ولا إمتناع شعاع، يقع على عينيه، ليرى، إنما هو يرى بعين قلبه وشعوره.