يد تصنع الجمال من خشب الأبانوس وعظام الجمل.. أحمد خراط عربى يشكل الأرابيسك والشطرنج والسبح بالدرب الأحمر: حرفة تراثية نحافظ عليها بتصميمات معاصرة.. أبيع وقتا من عمرى لا مجرد قطعة فنية.. الشغل اليدوى لا مثيل له

الثلاثاء، 02 ديسمبر 2025 10:00 م
يد تصنع الجمال من خشب الأبانوس وعظام الجمل.. أحمد خراط عربى يشكل الأرابيسك والشطرنج والسبح بالدرب الأحمر: حرفة تراثية نحافظ عليها بتصميمات معاصرة.. أبيع وقتا من عمرى لا مجرد قطعة فنية.. الشغل اليدوى لا مثيل له يد تصنع الجمال من خشب الأبانوس وعظام الجمل

كتبت مرام محمد - بتول عصام

في ورشة عتيقة تشع بإبداع لا يخطئه العين، وتحتضن روح فن استثنائي لا يشبه إلا صاحبه، يجلس أحمد سيد، فنان عميق الشغف، أمام ماكينة الخراطة، ينساب تركيزه على كل قطعة تمر بين يديه، فتتحول إلى تحفة تنطق بالأصالة والجمال، فتأسرك من اللحظة الأولى؛ خطوط تعاد صياغتها، تكرارات هندسية دقيقة تنتمي لروح الأرابيسك، وزخارف تنبض بروح الشرق، وكأن كل حركة من يده تكتب قصة عن صبر وخبرة سنوات.

أحمد خراط عربى يشكل الأرابيسك وقطع الشطرنج
أحمد خراط عربى يشكل الأرابيسك وقطع الشطرنج
 
ورشة أحمد
ورشة أحمد

الخامات الطبيعية، من الخشب إلى عظام الجمال، تستجيب لانسياب أنامله في صمتٍ مهيب، فتتشكل قطعة أرابيسك تتداخل تفاصيلها بحساب دقيق، أو لعبة شطرنج تروي قصة حرفي يعرف قيمة الجمال، أو سبحة يشع منها صفاء يلامس الوجدان، كل قطعة تبدو وكأنها خرجت من عالم يوازن بين لمسة تراثية ورؤية حديثة تدرك قيمة الجمال في أدق تفاصيله.

أحمد أثناء عمله
أحمد أثناء عمله

وبينما كانت أشعة الشمس تتسلل من نافذة الورشة، ويملأ صمت المكان صوت دوران ماكينة الخراطة، تحدث أحمد سيد، الخراط العربي، عن بداياته، وهو يركز على أجزاء لعبة شطرنج يصنعها من عظام الجمل، قائلًا: "تعتمد مهنتي على تشكيل الخامات الطبيعية مثل الأخشاب كالأبنوس، والعظام، وفي الوقت الحالي أعمل تحديدًا على صناعة قطع الشطرنج من عظام الجمل، لأنها خامة قوية وسميكة تسمح بالتشكيل الدقيق والاحتفاظ بالتفاصيل".

أحمد خراط عربى
أحمد خراط عربى

مع دوران ماكينة الخراطة، بدأت رائحة العظام تنتشر في الورشة، بينما كانت قطع الشطرنج تتكوّن تدريجيًا بين يدي أحمد؛ الملك شامخًا، الجنود يتخذون أشكالًا دقيقة تحت لمسته الماهرة.. في هذا الجو المليء بالتركيز واصل أحمد حديثه عن بداياته ومساره المهني: "لم تكن بدايتي مع هذه الحرفة مقصودة، ففي المرحلة الإعدادية لم أكن متفوقًا دراسيًا، وبدأت أشعر أن مساري الحقيقي ليس أكاديميًا، فاخترت الالتحاق بمدرسة صناعية، وهناك تعلمت فنون المشغولات العربية والخرط بمختلف أنواعه، وبعد حصولي على الدبلوم عملت في عدد كبير من الورش، ومع الوقت أحببت المهنة وتعلقت بها".

ورش الخرط العربي بالدرب الأحمر
ورش الخرط العربي بالدرب الأحمر

ومع مرور السنوات، وبينما كانت خبرته العملية تتعمق مع كل قطعة فنية، أدرك أحمد أن التعلم لا يقل أهمية عن المهنة نفسها، وأن المعرفة توسع العقل وتمنح الفن بعدًا أعمق من مجرد المهارة اليدوية: "قررت استكمال دراستي الجامعية وحصلت على بكالوريوس تجارة، فقد أدركت أن العلم يضيف رؤية مختلفة ويجعلني أفهم قيمة العمل اليدوي وأهميته في سياق أوسع. وحتى وإن بقيت الشهادة معلقة على الحائط، فإن عملي بيدي ما يزال هوايتي وعملي الأساسي، والفن الذي أصنعه يجمع بين الخبرة والمعرفة".

أحمد خلال عمله
أحمد خلال عمله

وبينما بدأ أحمد يمسك بعض القطع الجاهزة داخل الورشة، من أرابيسك محفور بعناية إلى قطع خرطية تقليدية، أوضح طبيعة فنونه: "فنون الخرط العربي متعددة، منها الأرابيسك، وهو فن المشربيات القديمة الذي كان يُصمم ليحجب الرؤية من الخارج، بينما يسمح لمن في الداخل برؤية ما حوله، ولذلك كان يُسمّى قديمًا بالحرملك، وهناك أيضًا الخرط التقليدي المستخدم في أرجل الكراسي والترابيزات وغيرها".

عظام الجمل
عظام الجمل

مع مرور السنوات، ورصد أحمد تغير أذواق الناس واحتياجاتهم، لاحظ أن الطلب على قطع الأثاث الخشبي اليدوي التقليدي قد تقلص، بينما زاد الإقبال على القطع الفنية الصغيرة التي تحمل بصمته: "تغير الطلب اليوم، ولم يعد الناس يحتاجون قطع الأثاث الخشبي اليدوي كما كان في السابق، بل أصبح الإقبال أكبر على القطع الفنية الصغيرة مثل: قطع الشطرنج، السبح، والعصي، فالحرفة تراثية ونحافظ عليها بتصميمات معاصرة، ويتم بيع منتجاتنا داخل مصر، إضافة إلى تصدير جزء منها إلى تركيا والسعودية والعراق ودول أخرى.

سبح
سبح

تتراص الخامات على الطاولة أمامه، العظام البيضاء النقية تتلألأ تحت الضوء، وأخشاب الأبنوس الداكنة تنتظر دورها لتتحول تحت أنامله إلى قطع مشغولة بعناية، كل خامة لها خصائصها وتحدياتها الخاصة، يقول أحمد: "العظام أحصل عليها من المجازر، أغسلها مرات متعددة، أنقيها بالأكسجين حتى تتحول إلى اللون الأبيض النقي، ثم أقطعها حسب المقاسات المطلوبة قبل بدء التصنيع، وعظام الجمل تُعد الأنسب لصناعة السبح وقطع الشطرنج، لأنها قوية وسميكة وتسمح بالتشكيل الدقيق، على عكس العظام العادية أو الجاموسي التي تكون أرفع ولا تصلح إلا للقطع الصغيرة، كما أستخدم خشب الأبنوس وهو خامة شديد الصلابة وتستخدم أيضًا في صناعة السبح والعصي، إلا أن تشكيله وخرطه يحتاج لصبر طويل ومجهود كبير لأنه شديد الصلابة".

قطع الشطارنج
قطع الشطارنج

كل قطعة مكتملة تحكي قصة، لا يقتصر جمالها على الشكل، بل يمتد إلى الوقت والفكرة والروح التي بُذلت فيها، فكل منحنى وخط صغير يحمل خبرة سنوات من الصبر والدقة: "القيمة الحقيقية للمنتج اليدوي ليست في سعره، بل في الوقت والفكرة والروح التي بُذلت فيه. في إحدى المرات قال لي أحد الزبائن الأجانب: "أنا لا أشتري قطعة فنية.. أنا أشتري وقتًا من عمرك".. ومنذ ذلك اليوم أدركت أن ما أصنعه ليس مجرد منتج يُباع، بل أثر فني ووقت من عمري".

منتجات الخرط العربي
منتجات الخرط العربي

تتجمع قطع الشطرنج على الطاولة، كل قطعة تحتضن تفاصيل دقيقة وحسابات دقيقة، يتحرك أحمد بخفة وانتباه، يراقب كل منحنى وخط، يضغط بلطف، ويقيس بعناية، وكأن كل ثانية من الوقت تمثل جزءًا من مهارته وصبره. وبين هذه التفاصيل الدقيقة، أوضح أحمد: "الوقت اللازم لصناعة القطعة يختلف حسب نوعها. قطعة الأرابيسك قد تستغرق ثلاثة أو أربعة أشهر، أما قطع الشطرنج المصنوعة من العظام أو الأبنوس فقد تحتاج لما يقارب أسبوعًا كاملًا حتى تكتمل بالشكل الذي يليق بها. العمل اليدوي الذي يولد من فكرة، ويُشكل بالصبر، هو متعة لا تشبهها متعة".

عرايس
عرايس

كل قطعة تجمع بين الخبرة والمعرفة، تراكم السنين والمهارة والخيال تظهر في كل منحنى وزخرفة، ويستمر أحمد في رسم حكاية كل قطعة، بحيث تصبح كل واحدة انعكاسًا لشغفه، وصبره، وحرصه على إبقاء الفن العربي العتيق حيًا نابضًا في عالم اليوم.

قطع الأرابيسك
قطع الأرابيسك

وعند نهاية اليوم، بعد صمت الورشة وغروب الشمس، يقف أحمد متأملًا ما أبدعته يداه، كل قطعة تحمل قصة، وكل تحفة تروي رحلة طويلة من الصبر والمعرفة، لتظل الحرفة العربية العريقة حيّة، تنبض بالإبداع والجمال، وتجمع بين تراث عميق وذوق حديث، بحيث لكل قطعة قيمة تتجاوز المادة نفسها.

الشطارنج
الشطارنج



أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب