استغرق الرئيس جمال عبدالناصر فى التفكير ثم طلب من العقيد معمر القذافى، قائد الثورة الليبية، إعطاءه بعض الوقت لدراسة اقتراحه المفاجئ، حسبما يؤكد فتحى الديب فى كتابه «عبدالناصر وثورة ليبيا»، مضيفا: «فوجئت أنا أيضا بهذا المطلب الذى لم يشر إليه العقيد معى من قبل بصورته المطروحة».. فماذا طلب؟
كان «القذافى» والوفد المرافق له فى أول زيارة لمصر بعد ثلاثة أشهر من قيام ثورتهم فى أول سبتمبر 1969، وكان اجتماعهم مع «عبدالناصر» صباح 2 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1969، وبحضور فتحى الديب «أمين الشؤون السياسية برئاسة الجمهورية»، وممثل عبدالناصر فى ليبيا منذ بداية الثورة.
شهد يوم 1 ديسمبر الاجتماع الأول فى منزل «عبدالناصر» بعد الإفطار، حيث كانت الزيارة خلال شهر رمضان، ويذكر «الديب» أن القذافى بدأ فى تقديم عرض شامل لموقف القوات المسلحة الليبية، مؤكدا: «قصور قدرتها على مواجهة التزاماتها الدفاعية لتغطية اتساع رقعة الأرض الليبية، وطول الشاطئ الذى يحدها شمالا على طول ساحل البحر الأبيض، وافتقار ليبيا إلى عدد السكان القادر على إمداد الجيش الليبى بما يلزمه من أفراد على مستوى الضباط أو الجنود»، ويضيف «الديب»: «أتم العقيد عرضه مشيرا إلى أهمية مواجهة الواقع الحالى، الذى فرض على القوات المسلحة المصرية تحمل مسؤولية دعم القوات الليبية فى مهمتها الدفاعية وتأمين الجبهة الداخلية».
اختتم «العقيد» حديثه بطرح مفاجأته، قائلا: «باسم الثورة الليبية أطرح أمر توحيد القوات المسلحة فى الجمهورية العربية المتحدة «مصر» والجمهورية العربية الليبية، تأكيدا لوحدة نضال شعبيهما ضد الاستعمار، وأقترح البدء فورا فى اتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق هذه الوحدة فى أقرب وقت ممكن»، وينقل «الديب» رد فعل «عبدالناصر»، قائلا: «جاء الطلب مفاجئا للرئيس، كما فوجئت أنا أيضا به، واستغرق الرئيس فى التفكير بعض الوقت ثم طلب من العقيد إعطاءه بعض الوقت للتفكير فى الموضوع لدراسته مع معاونيه، موضحا أنه سيعطيه الجواب قبل مغادرته القاهرة، وإن كان هو شخصيا مبدئيا لا يرى ما يمنع من تحويل الواقع الحالى إلى خطوة على طريق وحدة القوات المسلحة العربية».
يذكر «الديب» أن القذافى انتقل إلى مسألة أخرى وهى: «استعداد ليبيا لتقديم كل إمكاناتها فى خدمة المعركة ضد إسرائيل، موضحا أن إقدامهم على شراء صفقة طائرات الميراج من فرنسا هدفه الرئيسى هو دعم قدرات القوات الجوية المصرية فى مواجهة ما تدعيه إسرائيل من تفوقها الجوى، وأنهم على استعداد أيضا لتزويد القوات المسلحة المصرية بكل احتياجاتها من الأسلحة والمعدات الحربية فرنسية الصنع، تاركا أمر تحديد الأنواع والأعداد المطلوبة للرئيس والقيادة العسكرية المصرية».
يكشف «الديب»، أن الرئيس ناقش العقيد فى التوقيتات التى عرضها الجانب الفرنسى للبدء فى تسليم الطائرات الميراج، مؤكدا له عدم توافقها مع التزامات المعركة التى أصبحت تحضيراتها تستلزم ممارسة الجانب الليبى لضغوط كبيرة للحصول على أكبر عدد من الطائرات المتعاقد عليها خلال عام 1970، وعلى أقصى تقدير يكون معظمها تم استلامه خلال عام 1971 مع استعداد مصر لتقديم كل الأعداد المطلوبة لتشغيل هذه الطائرات وإدخالها فى حساب المعركة من طيارين وفنيين مهما كانت الأعداد المطلوبة».
أشار الرئيس بأنه كلف الفريق محمد فوزى وزير الحربية بدراسة العروض التى سبق وتقدم بها الجانب الفرنسى، وأخبر العقيد بأنه سيرسل بيانا بكل الاحتياجات إليه فى أقرب وقت ممكن بعد إتمام الفريق فوزى لدراسته الحالية للعروض حتى يمكن التعاقد عليها، مستفيدين من تجاوب فرنسا حاليا فى هذا الاتجاه، ويؤكد «الديب»، أن العقيد التزم فى رده بوعده ببذل أقصى ضغوط ممكنة على الجانب الفرنسى، لتحقيق مطلب الرئيس فى سرعة استلام ليبيا لأكبر عدد ممكن من طائرات الميراج خلال الفترة التى أشار إليها، وهى منتصف عام 1971، يضيف: «بعد أن استغرقت الجلسة ما يزيد على ثلاث ساعات، تم الاتفاق على موعد الاجتماع الثالث بعد الإفطار فى منزل الرئيس.
يكشف «الديب» أن الاجتماع الثالث كان له طبيعة خاصة بكيفية إدارة الدولة فى ليبيا، حيث نقص خبرة أعضاء مجلس قيادة الثورة فى تولى المهام الوزارية وأسلوب إدارتها، وصارح «عبدالناصر» العقيد بأن قال له: «مسؤولية نجاح الثورة أو فشلها تقع على عاتقك شخصيا»، ونصحه بأن مباشرة مفاوضات جلاء القوات الأجنبية من قواعدها فى ليبيا يتطلب السيطرة تماما على الأوضاع الداخلية مع الاستمرار فى تنفيذ مخطط توفير حياة كريمة مستقرة للشعب الليبى، وعن موضوع نقص الخبرة، قال الرئيس: «هى ليست بمشكلة، ونحن على استعداد للمعاونة فى هذا المجال، وإرسال بعض كبار المتخصصين بما فيهم بعض الوزراء إذا تطلب الأمر ليكونوا مع الأخ فتحى الديب جهازا متكاملا لتقديم الخبرة للوزراء من أعضاء مجلس الثورة، وليعاونوهم فى رسم خطط وزارتهم، ووضعها موضع التنفيذ، ويمكن تعيينهم بالتدريج كمستشارين للوزارات، كل فى تخصصه»، وتحول هذا الاقتراح إلى صيغة عملية فى الاجتماع الأخير يوم 3 ديسمبر 1969.