حسين السيد يكتب: عدم غناء أم كلثوم لفريد الأطرش

الثلاثاء، 02 ديسمبر 2025 07:00 م
حسين السيد يكتب: عدم غناء أم كلثوم لفريد الأطرش أم كلثوم

مات المطرب فريد الأطرش فى السادس والعشرين من ديسمبر سنة 1974 فى أثناء عرض آخر أفلامه "نغم فى حياتى"، وبعدها بأربعين يوما تقريبا ماتت السيدة أم كلثوم فى الثالث من فبراير سنة 1975.

مات فريد وفى حلقه غصة بسبب عدم غناء أم كلثوم لحنًا واحدا ألحانه، وظل يعبر عن حزنه من تجاهل أم كلثوم له فى صورة لقاءات تليفزيونية وحوارات صحفية؛ لأنه فنان ذو حس مرهف، وطيب القلب، ما فى قلبه على لسانه كما يقال، ومعه الحق فى أن يحزن ويتألم ويضجر، فمما لا شك فيه أنه إذا لحَّن لها بليغ حمدى وهو بالنسبة إليه شاب فى مقتبل حياته، وإذا لحن لها محمد الموجى وكمال الطويل وهما من الجيل الصاعد قياسا إلى فريد الذى قطع شوطا طويلا فى مجالى الغناء والتلحين، وأوسعهم شهرة وتألقا ونجومية، حتى أصبح أحد الأعمدة الغنائية فى مصر، فهو من مجايلى المطرب محمد عبد الوهاب، بل إنه يزيد عليه أنه مثَّل عددا كبيرا من الأفلام وأغلبها نجح نجاحا مدويا، كما أنه لا يزال يغنى ويطرب الجماهير فيما توقف عبد الوهاب عن الغناء والتمثيل، ليستمر فى التحلين فقط، أما فريد فكما قلت يمثل ويغنى ويلحن. أقول لابد أن يشعر فريد بالألم يعتصر قلبه وهى تغنى لغيره من الشباب وغير الشباب، وجاءت الطامة الكبرى يوم أن لحن لها عبد الوهاب أغنية "أنت عمرى" سنة 1964، حينها شعر فريد بالإهانة، لأنه يرى عبدالوهاب ندًّا له، فإذا لحَّن لها، فلابد أن يلحن لها أيضا، فماذا سيقول عنه الناس: غنت من ألحان كل الملحنين إلا فريد؟ فالعيب إذن فى فريد، ففى هذا إحراج لمركزه الفنى، ولم لا؟! وهى أهم مطربة عربية فى التاريخ الحديث؟! فتنازل فريد عن كبريائه وعرض عليها أن تغنى من ألحانه، لكن هذا المشروع لم يكتمل، وهنا انفجر فريد فى التصريح بحزنه وضيقه مما يحدث له، وما زاد الطين بلة أن الفنان عبد الحليم حافظ وهو من أهم المطربين على الساحة لم يغنِّ له أيضا، وغنى لعبد الوهاب وبليغ والموجى والطويل وغيرهم، لكنه لم يلحن له فريد.

يروى الناقد الفنى عبد الله أحمد عبد الله المعروف بميكى ماوس فى كتابه "عالم النجوم" بعنوان "لماذا لم تغن أم كلثوم ألحان فريد الأطرش" أن فريد قدم لها أغنية من أشعار بشارة الخورى "الأخطل الصغير"، وهى قصيدة بعنوان "وردة من دمنا"، ووضع لها لحنًا ظن أنها لن ترفضه، واستمعت أم كلثوم إلى اللحن، وكانت تحتفظ بمشاعرها تجاه ما تسمع، فلا يظهر عليها أى قبول أو رفض، وانتهى فريد من اللحن، وانتظر أن يسمع منها رأيها، لكنها فاجأته بقولها:

"كلام كويس ولحن كويس بس مايناسبنيش! "
ودهش فريد وقال:
"ازاى؟ ده متفصل على صوتك، ماحدش يغنيه غيرك".
وردت أم كلثوم:
"بس برضه مش دا اللى عاوزاه".

وهنا كتم فريد غيظه مما سمعه من أم كلثوم، وكانت لها وجهة نظر فى سبب هذا الرفض، قائلة: "ده كلام وطنى وحماسى، وأحب لما أغنى لك أغنى لك لحن عاطفى، لحن شعبى، يتغنى على طول، مش بس فى المناسبات الوطنية، وأنت تعرف تعملى اللى أنا عايزاه، ثم يا أخى أنا مش قايلالك اعرض على الكلام قبل ما تتعب وتلحنه؟".

إذن، لم ترفض أم كلثوم اللحن قط، لكن رفضت الكلام الذى ستغنيه، رفضت أن تغنى قصيدة وطنية لفريد بالذات، وحجتها فى ذلك أنها تريد أغنية تذاع طوال الوقت، لا أن تذاع فى المناسبات الوطنية فحسب، فتذاع مرة أو مرتين فى العام، وتظل مهملة طوال العام. وهذه وجهة نظر يراها البعض مقنعة، فمن حقها أن تقبل أو ترفض ما تغنيه، كما أنها فعلت الشىء نفسه مع محمد عبدالوهاب، عندما التقيا فى أغنية "أنت عمرى"، فالأغنية عاطفية وليست سياسية أو وطنية. ويلوح لى أنها قبلت التعامل مع عبدالوهاب لأنه فى ذلك الوقت قد توقف عن الغناء، واقتصر دوره فى الحياة الفنية على التلحين فقط، كما أنه سيقبل الملاحظات والتغييرات على اللحن إذا ما طلبت منه ذلك أم كلثوم، على العكس من ذلك فريد فإنه عنيد فى مسألة التغيير، وهذا ما سأتعرض له.

من الناحية الأخرى، أجد أن موقف فريد فى اختيار قصيدة "وردة من دمنا" لبشارة الخورى مناسب وملائم للظروف التى مرت بها الأمة، وهى تعرضها لنكسة 1967، فلا وقت للحب ولا للمشاعر، وإنما هذا هو وقت الكفاح وحمل السلاح وزرع الثقة فى نفوس الشعوب العربية، فرأى فريد أن الأمة التى حالها كحالنا وتعرضت إلى ما تعرضنا إليه أحوج ما تكون إلى أغان وطنية، وإلى ألحان حماسية، وأنها ستحقق نتائجها وتؤتى ثمارها لو غنتها مطربة كبيرة كأم كلثوم.

من ناحيتى، أرى أن رأى فريد هو الأصوب، وأنه محق فى أن يختار قصيدة وطنية عن فلسطين فى ذلك الوقت، فلم يكن من المعقول أن ينشغل بقصيدة كلها حب والوطن فى حالة حرب، فآمن فريد أن من الواجب عليه أن يشارك فى المعركة بقصيدة حماسية تلهب الوجدان وتؤجج المشاعر، فاختار بعناية قصيدة "وردة من دمنا"، ومنها:  

سائل العلياءَ عنا والزمانا هل خفرنا ذمَّةً مُذ عَرَفَانا
المروءاتُ التى عاشت بنا لم تزل تجرى سعيرًا فى دِمانا
ضَحِكَ المجدُ لنا لما رآنا بدم الأبطال مصبوغًا لِوانا
عرسُ الأحرارِ أن تسقى العِدا أكؤسًا حُمرًا وأنغامًا حزانى

كما أن المشروع الفنى لم يكتمل بين فريد وأم كلثوم لأن فريد من طبعه الاعتزاز الشديد بنفسه، وأنه إنسان عنيد بالدرجة الأولى، وهذا ما يتنافى مع شخصية أم كلثوم التى تحب أن تضع لمستها وبصمتها فى العمل الفنى، فتعدل وتغير فى الكلمات والألحان، الأمر الذى سيرفضه فريد بشدة، وهذا ما أشار إليه الملحن الكبير بليغ حمدى فى مقال له عن فريد الأطرش بعد رحيله، وكان بعنوان "دفاع عن الضياع الحضارى"، وجاء ضمن مقال الكاتب الصحفى رشاد كامل "بليغ حمدى يكشف السر: عدم غناء أم كلثوم ألحان فريد الأطرش" المنشور فى روز اليوسف، 17 أغسطس 2021، ومنه "أن فريد كان معتزا للغاية بنفسه، وعنيد إلى آخر مدى، حتى فيما لا يخدم فنه هو! إن هذا هو السبب فى أن أم كلثوم لم تغن من ألحانه، إن فريد لم يعرف كيف يتعامل مع سيدة الغناء العربى أم كلثوم، كانت له طريقته فى التعامل، وهى طريقة كانت - فضلا عن اقتناعه بها - جزءا من شخصيته، هذه الطريقة هى التى جعلته يرى مثلا أن فنانا كبيرا وناجحا وشعبيا مثله، لا بد أن يكون له حق اختيار الكلمات التى يلحنها لكى تغنيها أم كلثوم".

إذن، السبب فى عدم إكمال التعاون بين الاثنين يرجع إلى فريد نفسه، فما عليه إلا أن يكون طيعا مرنا مستجيبا لأى تعديل تطالب به أم كلثوم، وما عليه إلا أن يعدل من ألحانه بحسب ما يلائم صوتها، لكنه لم يكن مرنا ولا مستجيبا، وقد حدث هذا فى أغنية "الربيع" الشهيرة التى غناها بعد ذلك، فقد أُعجبت أم كلثوم بالكلمات، وطلبت من مؤلف الأغنية "مأمون الشناوى" تغيير بعض الكلمات ومن ملحنها "فريد" بعض التعديلات، فما كان من فريد إلا أن تمسك برأيه أو بلحنه، فظهرت الأغنية بصوته، لتحقق نجاحا مكتسحا خافت منه أم كلثوم، وجعل المحيطين بها يرون فى فريد منافسا خطيرا لها، كما يؤكد ذلك الأستاذ حنفى المحلاوى فى كتابه "الأربعة الكبار فى الأغنية والألحان"، فهو ينحى باللائمة على فريد، ويعده المسئول عن عدم إتمام هذا التعاون بينهما.

ذكر فريد أن من ضمن أسباب عدم غناء أم كلثوم من ألحانه أن هناك ملحنين دسوا له عندها، فأقنعوها بعدم الغناء له؛ محاولين إيهامها بأن موسيقاه لا تنسجم ولا تتناسق مع صوتها. وأرجع فريد ذلك إلى الغيرة الفنية؛ فهم يخشون نجاحه معها، فيعجب الجمهور بهذا اللون الشرقى الممتاز الأصيل الذى يمتاز به فريد، ويطالبها الجمهور بأن تغنى له مرة أخرى، فأراد هؤلاء الملحنون قطع الصلة بينهما، وهذا التبرير كان مقتنعا به فريد، بل إنه جزم مرتين بتدخل الوسطاء بينهما. وربما يكون كلام فريد صحيحا، فخشى بعض الملحنين من أن يكشف فريد ضآلة ألحانهم لقدرته على الكشف عن زيف بعض الأعمال الفنية، ولقدرته على خلق ألحان باهرة يعجب بها مختلف الجماهير.

وأعتقد ولا أجزم أن من أسباب عدم اكتمال التعاون بين فريد وأم كلثوم، هو أن بعض الوسطاء ربما أدخلوا فى ذهن أم كلثوم أن فريد سيسرق منها البساط وسيُحسب نجاح الأغنية إليه هو؛ لأن له لونا خاصا به؛ ولأنه فنان شامل بمعنى الكلمة، فكان منذ أن بدأ إلى أن مات نجمًا، وكثير من أفلامه ناجحة.

ذكر فريد الأطرش أن أم كلثوم لا تريد أن تتعاون معه بسبب الكُرْه؛ أى تكرهه وتكره أسمهان، وقال: "أم كلثوم بكل أسف فى حاجة بنفسها مش عاوزة تتعاون معايا، أنا حاولت وقلت هذه أمنيتى فى حياتى وتواضعت وحتى جرحت نفسى لما قلت لها أمنيتى.. كنت أعتقد أننى ورثت كرهها لأسمهان، ومش فاهم ليه دايما تتردد فى الغناء لى"، وهذه المرة أختلف مع فريد، فمن مصلحة أم كلثوم أن تتعاون مع كل الأطياف والألوان، وإذا ما فشلت أغنية لها فهذا راجع إلى الملحن وليس إليها، رأيناها تتعاون مع جيل جديد من الملحنين، فبعد مسيرتها الطويلة مع محمد القصبجى ورياض السنباطى وزكريا أحمد وقبلهم الشيخ أبو العلا محمد، جاء الدور على الشباب من كمال الطويل والموجى وبليغ، ثم تعاونت مع محمد عبدالوهاب، وكان المفروض أن يكون فريد من ضمن القائمة، لكن بسبب تعنت الجانبين، فريد وأم كلثوم، لم يكتمل هذا اللقاء.

وأرجِّح أن تصريح فريد الأخير -الكُرْه هو السبب- لأنه كان غاضبا من أكلثوم، فقد ألح عليها أربع سنوات لتغنى له، لكن فى كل مرة يفشل الاثنان فى إكمال التعاون. كما أن هذا دليل على الطيبة التى كان يتمتع بها فريد، فلم يكن ليستطيع أن يدارى مشاعره وانفعالاته، فكان مادة دسمة للصحافة واللقاءات التلفزيونية، يُخرج كل ما فى داخله، وهم يعلمون أنه على الفطرة، أو كما نقول: اللى على قلبه على لسانه، فاستغلوه أسوأ استغلال.

وليس صحيحا أن أم كلثوم كانت تكره أسمهان؛ لأنها كانت خطرا عليها، أو لأنها ستهز عرشها، وذلك لأن لا أحد سيصل إلى المكانة التى وصلت إليها أم كلثوم، فلا خوف من ظهور فلانة أو فلان، أو نجاح فلانة أو فلان. لكنها كانت تحب أسمهان وتقربها منها ولم تسع إلى التخلص منها كما روج البعض الإشاعات؛ بل كانت تساعد بعض المطربات، وعلى سبيل المثال المطربة سعاد محمد وهى الأقرب إلى طبيعة صوت أم كلثوم كما ذكر الناقد عبدالله أحمد عبدالله الذى التقى سعاد، وأخبرته أن أم كلثوم كانت تطلب إليها أن تغنى، وعندما سألها: هل تحاربها أم كلثوم؟ أجابت سعاد أن الفرص الإذاعية التى كانت تحظى بها من إذاعة مصر كانت بفضل أم كلثوم، وأكدت أنه لولا أم كلثوم ما غنت فى إذاعة مصر.

وهذا يدل أيضا على أن فريد كان يستمع للمغرضين الذين أوهموه أن أم كلثوم كانت تكره أختها، وبسببها لم تتعاون معه، وغرسوا فى قلبه أنها تكرهما معا، ولهذا لن تغنى له أبدا.

أحس فريد أنه مظلوم ومكروه، لكنه فى الحقيقة كان محبوبا من الجميع، وكان الجميع يتقبله ويحبه على طبيعته، ويدركون مدى طيبة قلبه وهو الذى مات بالقلب.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة

حسين السيد يكتب: الفتوى الترنسفالية

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 06:00 ص

حسين السيد يكتب: مأساة أنور وجدى

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025 08:00 م

الرجوع الى أعلى الصفحة