لم يكن أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (نحو 1058–1111م) مجرد فقيه أو متصوف ذائع الصيت، بل عقل عاش في قلب صراع معرفي حاد، كيف توزن الحقيقة بين العقل والنقل والتجربة الروحية؟ وكيف تفهم الفلسفة دون أن تسقط على الدين ما ليس منه؟ لهذا تبدو حكايته مع الفلسفة والتصوف جزءًا من سيرة فكرية صنعت منعطفًا كبيرًا في تاريخ الفكر الإسلامي، وأثرت في النقاشات الفلسفية واللاهوتية لقرون.
الفلسفة فى زمن الغزالي
في زمن الغزالي كانت الفلسفة (الفلاسفة/الفلسفة المشّائية المتأثرة بأرسطو كما تلقاها الفارابي وابن سينا) في مواجهة أسئلة كبرى تتصل بالإلهيات والكون والسببية والمعاد، ويشرح مدخل ستانفورد للفلسفة أن الغزالي كان حاضرًا في لحظة تحد سني من اتجاهات فلسفية وإسماعيلية، ما جعل النقاش حول حدود العقل وسلطة البرهان نقاشًا مصيريًا.
الغزالي لم يبدأ موقفه من الفلسفة بالرفض من خارجها، بل بحسب ما تذكره الموسوعات قرأها ودرس مناهجها، ثم واجه ما اعتبره تجاوزًا في باب الإلهيات خاصة، ولهذا ارتبط اسمه بكتابه الأشهر في هذا الباب "تهافت الفلاسفة" الذي ناقش نقد مواقف "الفلاسفة" في مسائل ميتافيزيقية اعتبرها مصادمة لأصول الاعتقاد، مع تنظيم النقاش في عشرين مسألة.
وتشير مادة "بريتانيكا" إلى أن "تهافت الفلاسفة" كان دفاعًا عن الإسلام في مواجهة آراء فلسفية رآها الغزالي مخالفة للتعليم الإسلامي المقبول.
ومن المهم هنا التفريق، فالغزالي كما تظهر قراءات متخصصة لم يعلن حربًا على كل العلوم العقلية، بل ركز على "الإلهيات" وما يتصل بمسائل مثل قدم العالم، علم الله بالجزئيات، والمعاد، وهذا المعنى يرد في شروحٍ حديثة لمحتوى "التهافت" وتنظيمه في عشرين مسألة، حيث تُذكر صراحة طبيعة القضايا التي يطاردها الغزالي داخل الكتاب.
كما أن المسار التاريخي للنقاش لا ينتهي عند الغزالي، إذ أن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد رد لاحقًا بكتاب "تهافت التهافت" وهو رد دفاعي عن الفلاسفة، يضع الغزالي نفسه في قلب "مناظرة تاريخية" ممتدة حول العقل والبرهان وحدود التأويل.
غير أن "حكاية الغزالي" لا تكتمل عند الجدل الفلسفي، الجزء الأكثر إنسانية وعمقًا يتبدّى في كتابٍ يُقرأ بوصفه سيرةً فكرية "المنقذ من الضلال" وفيه يروي الغزالي تجربة داخلية قادته من اضطراب الشك إلى ما يصفه باستعادة اليقين عبر نورٍ يلقيه الله في القلب، وفي ترجمات الكتاب المتداولة يرد المعنى بصيغة قريبة من: "نورٌ قذفه الله في صدري" بوصفه مفتاحًا لانحلال الأزمة.
هذا التحول لا يعني أنه "ترك العقل"، بل يعني أنه وضع للعقل حدًا، ورأى أن بعض أبواب الحقيقة لا تُنال بالبرهان وحده، بل بـ"التجربة" و"الذوق" الروحي الذي يتيحه طريق التصوف وهو ما تلمح إليه مداخل فلسفية حول أثر مساره الروحي وانتقاله من الظاهر إلى الباطن داخل الإسلام.