نفخر بلغة ثرية تحمل بين سجايا نسيج حروفها معان يصعب حصرها، ونغم من المفاهيم والمترادفات شكلت تراثًا لا يقابله نظير من لغات أخرى، وهذا لأنها لغة القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه؛ إذ يغذي العقل والوجدان، ويعزز السلوك الحسن، ويقوم غير الصائب، برفق ولين؛ فهو سفينة النجاة، والهادي إلى سواء السبيل في الدنيا، والمورث لرضوان الله – تعالى – وجنته الخالدة في الآخرة، وشرف حمله في الأفئدة، يصقل الذاكرة، ويعمل على تنمية اللغة في سياقها الرصين، ويبعث التفاؤل والأمل في القلوب، ناهيك عن قيم نبيلة، يعضد اتصافاتها من خلال بوابة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالصورة الحامية للفرد من الوقوع في براثن الانحراف؛ ومن ثم يعد أداة بناء الإنسان الرئيسة الحاضة على العطاء والإيجابية في كل صورها.
نحتفى بلغتنا الراقية، كونها وعاء هويتنا، الحاوية لتراثنا الثقافي والحضاري، لأمة صاحبة صفات نبيلة عبر غور العصور؛ حيث أسست للإنسانية في صورتها الشمولية؛ فأمدت البشر بجملة من القيم، الحافظة للعقل، والروح، والجسد، والداعمة لأخلاق وشمائل، قامت عليها العدالة والمساواة، في صورة عززت ماهية التسامح، وجعلت من الرحمة، والعطف، بوابة للاستيعاب، والاندماج الاجتماعي؛ فصارت الوسطية نبراسًا يهدينا إلى طريق قويم، حث على التبادل الإنساني؛ فاتسعت منابر الإبداع والابتكار، وصارت المعرفة في منحى العالمية المسموح بتوظيفها لصالح بني البشر، بغض النظر عن اللون، والعرق، والمعتقد؛ فتلك قاعدة السلامة، المتمثلة في تجنب التمييز بين الناس؛ إلا بالتقوى والعمل الصالح.
تحثنا لغة الضاد الجميلة التراكيب، الراقية بألفاظ تؤكد دلالتها العميقة، على فضائل يصعب حصرها؛ ومن ثم نعمل بقصد على غرس القيمة عبر باب الوظيفية؛ حيث نزرع الأمانة في وجدان الفرد، من خلال تطبيقات عديدة، سواءً أكانت داخل أسوار مؤسسات بناء الإنسان الرسمية، أو داخل سياج الأسرة، التي تعد بمثابة شريك أساسي في تشكيل الشخصية، وبناءً عليه يكتسب فلذات الأكباد بلاغة لغة، لها دلالات من الجمال والبلاغة، العاجزة عن استيعابها العديد من اللغات المناظرة، وهنا نوقن فضل لغتنا الراقية في توجيه سلوك البشر، ودفعه نحو الخير؛ لتصبح المجتمعات قاطبة محتفظة بفلسفة الخلق القويم.
معان لغتنا الجميلة، تتسم بدقة معانيها؛ فهناك مرامي يصعب حصرها، تحدث أثرًا طيبًا في نفس المتلقي؛ فرغم ما يؤكد عليه المعنى الأساسي؛ لكن مترادفاته تخلق شعورًا نصفه بالإيجابي، من خلال تأمل وتدبر في ظلال التعبير، وما يتمخض عنه من انفعالات، أعجزت أهل الأدب، وأبهرت أصحاب البيان، وقهرت كل من حاول أن يبرز تحديًا، أمام ظلال شعورية لا ينقطع مدادها، وهنا نقول بلسان مبين، إن من يمتلك مفردات لغتنا اليافعة؛ فإنه يشعر قطعًا بالفخر والخيلاء؛ كونه يحوز ثمار ناضجة، لا يحدث لها عطب بمرور الزمن؛ لكن تزداد لديه قوة المنطق، وينمو نتاجه في سياج حروفه، ويضيف إلى حاوية التراث المعان المتفردة، وهذا سر حيوتها.
بحور اللغة العربية عميقة، ولا قرار لها، ومعان كلماتها لها مذاق خاص، يشعر بها أهل البيان والتبيان، ودلالات التعابير يستمتع بها الجميع دون استثناء، وقوة البرهان نستقرأه من تأثير على الوجدان؛ إذ يمكن بكلمات رقيقة أن نقدح الأذهان؛ فتخرج لنا عذب الكلم، ومنطق الحجة، والولوج لتفسيرات لم ترد على الخاطر من ذي قبل؛ ومن ثم تستمع إلى شعر، ونثر، وخطابة، وسياج مقال، وقصص، وروايات، ولغة مسرح، تعبر عن ألوان فريدة للغة الضاد، وهنا ترصد تنوعًا في السياق والقالب؛ فتتلاقى جماليات المعاني مع رقي البيان؛ ليبدو التفكير منهمرًا، من شعور يستطيع الإنسان أن يعبر من خلاله عن الحالة التي يمر بها بصدق.
لغتي الجميلة، لا نقول إنها تؤدي إلى الإبداع وفقط؛ لكنها تقوي ارتباطنا بجذورنا وتاريخنا وثقافتنا؛ ومن ثم تعزز الهوية في وجدان جيل تلو الآخر؛ فلا مجال لتشويها قواعدها، ولا منفذ لبلوغ الابتذال المرفوض من قلوب تربت على أصالة النغم والمعنى؛ فالرباط بين قواعد النحو، والصرف، والبلاغة، لا ينفك البتة، وهذا ما يعجز المغرضون، الذين يحاولون دمج لغات مستوردة في سياج لا يقبل الإضافة، ويحافظ على جماله، كونه متجدد، ويستحيل أن يصل إلى بديعه أحد من أصحاب اللغات الأخرى؛ فغيث لغتنا لا ينقطع مداده، عبر أذهان، وأقلام، وأحاديث متواترة، ما بقيت الحياة.
من يستهدف أن يصيب الوعي بالمشوب، يستخدم معول تشويه اللغة؛ حيث تغيير في السياق، والمعني، ووصف مختزل للدلالة، وإضعاف للبرهان كمحاولة تدخل الفرد في صراع داخلي؛ لذا نوظف لغتنا العربية الفصحى المتفردة المعاني، في صقل المعارف والممارسات والوجدانيات القويمة؛ لنحمي أسوار الإيجابية عبر فهم رسالة السماء، وتطبيقاتها المتعددة المرامي على الأرض؛ فنغرس نتاج أمهات الكتب الممتلئة بجواهر المعاني، في أذهان تفقه ماهية المشاعر، وحسن المعاملة، وأهمية التكافل، والتراحم، والتعايش في سلم وسلام، وأمن وأمان.
لغة الضاد مهتمة بالحوار والمناقشة؛ لذا بدأت الدعوة بقاعدة واضحة المعني، وقوية البيان؛ حيث قال تعالى في محكم تنزيله (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، النحل، 125، هذا الخطاب يؤكد على الاهتمام بأسانيد العقول، والبعد عن الفظاظة والقسوة، بل، تعزيز لماهية التفكر حتى يصل الإنسان لضالته من خلال شواهد الطبيعة المعززة بالفكر القويم، وأعتقد أن التجديد في الخطاب الدعوي لا ينفك عن وظيفية تعزيز اللغة الجميلة، وخير شاهد وبرهان برنامج دولة التلاوة، الذي نالت فكرته الدعم المجتمعي على المستويين المحلي والعالمي.
أرى أن برنامج دولة التلاوة، حمل في رسالته الواضحة، المتعددة المرامي، أهمية العودة للتمسك بلغتنا الجميلة، نطقًا، وسماعًا، وتبحر في المعاني، وفقه لأحكام تعزز الوحدة، وتؤكد على الهوية؛ فالخطاب يجعلنا نعمل في انسجام من أجل رسالة السماء النورانية؛ لنحدث المغزى، ونصل للمنشود، عبر تعزيز مقومات الإيمان والتقوى.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.