هناك الكثير من الضرورات فرضتها تجربة الانتخابات القائمة، التى يفترض أنها تكشف عن عناصر مهمة فيما يتعلق بالتفاعل ومدى الرضا والثقة التى تضمن وجود تناغم سياسى وتوازن اجتماعى، فقد ظهرت الأحزاب السياسية بصورة شديدة الهزال، وكشفت الانتخابات غياب هذه الأحزاب عن الشارع، وعجزها عن مخاطبة الجماهير، ناهيك عن ظهور أحزاب مكونة فى أغلبها من مسؤولين تنفيذيين ووزراء سابقين أو قيادات تنفيذية، وهى مفارقة كبيرة أن يقدم مسؤول تنفيذى نفسه على أنه شخص جماهيرى يمارس السياسة بعد التقاعد، بينما العمل الحزبى والسياسى يتطلب أشخاصا نمو وترعرعوا فى العمل السياسى وتدرجوا فيه، وقد يقول قائل إن عملية بناء نخبة جديدة تحتاج إلى وقت ومجهود، من خلال بناء أحزاب سياسية، وهى مقولة حق يراد بها «تشويش»، لأن العمل السياسى لا يقوم بقرار، ولكن من خلال رغبة وفرز ومنافسة، ولا يمكن أن يظل المسؤول بعيدا عن العمل العام المباشر لسنوات، وفجأة يجد فى نفسه رغبة فى أن يكون قيادة جماهيرية، وهنا لا نتحدث عن القبول، ولكن عن تفكير من قرروا إقامة الحزب، وكيف جهزوا له أو استعدوا، وربما يسأل مواطن عن برنامج الحزب الجديد، ومدى اختلافه عن برامج أحزاب نشأت قبله، أو أحزاب قامت ما بعد 25 يناير ثم 30 يونيو.
بل وحتى الأحزاب القديمة التى قامت من السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كالوفد والناصرى والتجمع والأحرار، تبدو أنها راحت مع الحزب الوطنى، الذى بقيت كوادره فى بعض الأحزاب، ومع هذا تمارس هذه الكوادر السياسة بطريقة قديمة تفتقد استيعاب التحولات، والتطورات فى المجتمع وطبقاته، خاصة شبابه الأكثر وعيا وقدرة على التفاعل.
لقد كانت هناك مطالب بضرورة إطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية بالإخطار، وهو ما تم بعد 25 يناير، لكن المطلب تحول إلى حالة عشوائية من الأحزاب وصلت إلى أكثر من 100 حزب، وهو رقم ليس كبيرا لكنه أيضا لا يعكس تعبيرا حقيقيا عن مصالح وطبقات، ونقول إن أغلبية الشعب المصرى من الطبقة الوسطى، وهى الطبقة التى تضم النخب والموظفين والمهنيين والعمال والفلاحين والفنانين والتجار والمثقفين، والإعلاميين من صحفيين ومذيعين ومعدين، والعلميين والزراعيين وقطاعات من الفنيين، بل وربما بعض المستورين ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى سلوكا وتفكيرا، والطبقة الوسطى هى التى تصدرت يناير ويونيو، وبالتالى فهم الذين خرجت منهم الأحزاب أو يفترض أن تعبر عنهم، لكن ما جرى غير ذلك، فالعدد فى الأحزاب لا يمثل المصريين، وإنما نخب متوازية مغلقة على نفسها، بادعاء الثورية، التأييد أو المعارضة، بينما كلهم تقريبا منعزلون يطلقون خطابات بعيدة عن الجمهور، ولا تتفاعل معه وربما لا تعرفه.
تكشف الانتخابات عن أهمية أن تغادر الأحزاب أبراجها إلى الواقع، وتتعامل مع المواطنين من خلال برامج وخطط ومناقشات وأفكار، بعيدا عن الحضانات، ومن الصعب التفرقة بين أحزاب كبيرة وأخرى صغيرة، فكلها غالبا صغيرة غير معروفة للجمهور، بالرغم من بعض الأنشطة التجارية، أو الخدمات، التى لا علاقة لها بالسياسة، وتدخل فى صلب عمل الجمعيات الأهلية، وتكشف نتائج الانتخابات بعد البطلان فى المرحلة الأولى عن تغييرات إلى حد كبير فى نتائج الانتخابات عما كانت تتوقعه الأحزاب أو مرشحوهم، فالمستقلون يقتربون من حسم نسبة لا بأس بها من المقاعد، مما يطيح بحسابات الأحزاب ويكشف عن جهل الشارع والناخب والجمهور.
كل هذه العناصر تشير إلى غياب تقريبى للأحزاب، وبقاء بعضها فى حضانات، مما يمنع نموها وتطورها، بينما الواقع يتغير بسرعة، ويفرض نفسه على كل الأطراف بأن تخرج إلى الواقع، وتسعى للتعرف عليه وقراءته بأدوات العصر أو حتى بطرق طبيعية بعيدا عن الغرور والجمود.
