مها عبد القادر

دولة التلاوة والقوة الناعمة المصرية

الأربعاء، 17 ديسمبر 2025 04:40 ص


يمتد تاريخ مصر مع القرآن الكريم بوصفه مشروعًا حضاريًا متكاملًا، كون الذائقة الصوتية، ورسخ المعرفة الدينية، وأسهم في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع، فمنذ بدايات القرن العشرين، تبلورت في مصر مدرسة فريدة في فن التلاوة، جعلت من صوت المقرئ رمزًا للخشوع والتدبر والتفكر في آيات الله، وصار الأزهر الشريف حارسًا أمينًا للعلوم القرآنية، والإعلام المصري منبرًا عالميًا حمل التلاوة إلى آفاق العالم، ومن ثم بات إعادة قراءة هذا الإرث ضرورة، في ضوء مشروع الدولة المصرية الحديثة الساعي إلى بناء قوة ناعمة قرآنية راسخة، تتكامل فيها المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية.

ويمثل الأزهر الشريف عمود الارتكاز الأول لدولة التلاوة المصرية؛ فهو المؤسسة العلمية الأعرق، والمركز العالمي لعلوم القراءات والأداء، وقد اضطلع الأزهر بمهمة تكوين المقرئين، وصقل المواهب، ومنح الإجازات، وضبط الأداء وفق القواعد الدقيقة للقراءات العشر وأحكام التجويد، كما رسخ الأزهر مدرسة وسطية فريدة، جمعت بين العلم والجمال، وحرفية الأداء، فصار المقرئ المصري نموذجًا يحتذى به في العالم الإسلامي، حاضرًا عبر البعثات الأزهرية، وعبر الإذاعة المصرية التي حملت أصوات القراء العظام إلى كل بيت، وفي سياق الدولة الحديثة، حافظ الأزهر على دوره في حماية سلامة الأداء القرآني من أي توظيف سياسي أو خطاب متشدد، فظل الصوت المصري مرادفًا للسكينة والاعتدال، وضبط المقامات دون تكلف أو إسراف، مانحًا المدرسة المصرية حصانة فنية ومعرفية لا تزال قائمة حتى اليوم.

واضطلعت وزارة الأوقاف المصرية إلى جانب الأزهر بدور محورى في إدارة الحياة الدينية وبناء منظومة التلاوة داخل المساجد، فقد عملت الوزارة خلال السنوات الأخيرة على إصلاح شامل لمنظومة الأداء القرآني، عبر تحديث مسارات الإجازة، وتطوير برامج إعداد الأئمة، ودمج التعليم القرآني ضمن خطاب دعوي منضبط، إلى جانب إطلاق مدارس وملتقيات لصقل الأصوات الشابة، وضبط المنابر من أي تجاوزات أدائية أو تسييس للتلاوة، وقد أسهم هذا الدور التنظيمي في توفير بيئة مؤسسية تنشئ جيلًا جديدًا من المقرئين المؤهلين علميًا وصوتيًا، في إطار يحفظ للقرآن قدسيته، ويصون للمقام المصري مساره الأصيل.

وشكلت مسابقة دولة التلاوة نقلة نوعية في تطوير مدرسة التلاوة المصرية، بوصفها مشروع دولة يستهدف اكتشاف أفضل الأصوات من مختلف المحافظات، وتدريب المواهب وفق مناهج علمية رصينة، وتقديم مقرئين شباب يحفظون روح المدرسة المصرية، ويعيدون الذائقة القرآنية إلى مركزها الصحيح.
وقد حققت المسابقة رواجًا واسعًا لأنها جمعت بين جمال الأداء وصرامة التحكيم، وربطت بين التراث العظيم لرموز التلاوة المصرية، من الشيخ محمد رفعت إلى الحصري عبد الباسط والمنشاوي والبنا وغيرهم كثيرًا، وبين طموحات جيل شاب يبحث عن موقعه في عالم التلاوة، وهكذا تحولت المسابقة إلى منصة وطنية متفردة، تقدم المقرئ المصري المتميز للعالم.

تعد الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية شريكًا استراتيجيًا في صياغة هذا المشروع الوطني، مستثمرة إمكاناتها الإنتاجية المتقدمة لإعادة تقديم التلاوة المصرية بصيغة تليق بالعصر، وقد تحقق ذلك عبر إخراج إعلامي احترافي لمسابقة دولة التلاوة، وتسجيلات عالية الجودة، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة في إبراز جماليات الصوت والمقام، إلى جانب دعم محتوى ديني رصين متكئ على الأزهر ووزارة الأوقاف، وبهذا الجهد، انتقلت التلاوة المصرية من فضاء تقليدي محدود إلى فضاء إعلامي عالمي قادر على التأثير، لتغدو جزءًا أصيلًا من القوة الناعمة للدولة وصورتها الحضارية.

وتعود القوة الناعمة القرآنية التي تشكلت تاريخيًا عبر الإذاعة المصرية، والبعثات الأزهرية، والتعليم الديني الرصين، اليوم في ثوب جديد يناسب العصر الرقمي، من خلال مسابقة دولة التلاوة، والإنتاج الإعلامي المتطور، والتدريب المؤسسي للأئمة والمقرئين، وبهذا، تعيد مصر تقديم نفسها بوصفها صاحبة الصوت الأول للقرآن، وصاحبة مدرسة التي توفق بين المقام العربي، والروح الإسلامية، والضبط العلمي.

وتأتي هذه الجهود ضمن مشروع الدولة المصرية لتعزيز ركائز قوتها الناعمة إلى جانب قوتها الصلبة؛ فكما تبني مصر جيشها القوي، واقتصادها المتنامي، ومنشآتها العملاقة، فإنها في الوقت ذاته تعيد بناء صورتها الثقافية والحضارية والروحية والدينية، عبر بناء وتكوين صوت ديني منضبط، متكئ على العلم، ومحكوم بالمؤسسات، قادر على مواجهة التطرف بخطاب قرآني رصين، يقدم الإسلام في صورته السمحة المتوازنة، ويعيد تشكيل الوعي الديني لدى الأجيال الجديدة، ولاسيما الشباب، وبذلك يصبح مشروع دولة التلاوة عنصرًا محوريًا في الأمن الثقافي والفكري المصري، وترجمة عملية لحداثة دينية واعية متجذرة، ومحصّنة بالعلم، ومشحونة بالقيم، وقادرة على مخاطبة العالم بلغة إنسانية جامعة، تجعل من التلاوة المصرية رسالة حضارية، وصوتًا للسلام والجمال والاعتدال.

ونؤكد أن مسابقة دولة التلاوة رؤية دولة، ورسالة أمة، وركيزة من ركائز الأمن الثقافي والفكري، وجدارًا ناعمًا يحمي المجتمع، واستثمار في الإنسان والوجدان والوعي، إنها إعلان واضح بأن الدولة المصرية، التي حفظت القرآن صوتًا ومعنى عبر قرون، لا تزال قادرة على أن تقدمه للعالم بوصفه خطاب حياة، وسكينة، حيث إن بناء الصوت القرآني المنضبط هو في جوهره بناء للإنسان؛ إنسان متوازن، واع، متصل بأصوله حافظ لهويته، منفتح على عصره، محصن بالعلم، ومشبع بالقيم، هكذا تتكلم مصر.. بصوت القرآن؛ صوت يحمل السلام، ويؤسس للوعي، ويخاطب العالم بلغة الإنسانية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة