اختار محمد كامل القليوبى فى بداية عمله بالمركز القومى للسينما مدرسا لمادة الإخراج مجالا نادرًا لم يقتحمه الكثيرون وهو مجال الدراسات والأبحاث النقدية.. وكانت خلفيته اليسارية دافعا قويا لأخذ مسار الدراسات فى تاريخ السينما بجدية ومثابرة وبمنهج علمى رصين.
كان السائد قبل توغل القليوبى العميق فى تاريخ السينما المصرية أن أول أفلام السينما المصرية هو فيلم "ليلى" سنة 1927 والذى توالى على إخراجه وداد عرفى واستفان روستى وعزيزة أمير وكان صامتاوان (أولاد الذوات) سنة 1932 من إخراج محمد كريم هو أول فيلم مصرى ناطق.. واستمر هذا التاريخ ردحا من الزمن لا يراجعه أحد حتى صححه محمد القليوبي.
لا نعرف كثيرا عن ملابسات هذا الاكتشاف المهم الذى يشبه الاكتشافات الأثرية إلا أن القليوبى بدأ من فكرة بسيطة : لايؤرخ لبداية اى سينما بأول عمل (روائي) بل بأول شريط سينمائى يحمل أى قدر من المعنى.. حتى أن السينما العالمية تؤرخ لشريط سينمائى بدائى باسم (الخروج من المصنع).. ومن هنا اهتدى القليوبى إلى الرائد الحقيقى للسينما المصرية وهو فنان عصامى مثقف درس السينما فى المانيا وعاد إلى مصر وأنشأ فيها ستوديو صغير استطاع من خلاله – دون ضجيج وفى صمت صوفي- أن يحقق عدة أشرطة سينمائية.
ولم يكتف القليوبى بذلك بل استطاع أن يصل إلى الاستوديو وأن يعثر على أول أفلام السينما المصرية الحقيقى وهو فيلم "برسوم يبحث عن وظيفة" من إخراج محمد بيومى نفسه ومن تمثيل بشارة واكيم سنة 1923 أى قبل أربع سنوات من فيلم (ليلى) المكرس (ربما حتى الآن فى كثير من المراجع) كباكورة أفلام السينما المصرية.
كان فيلم القليوبى "وقائع الزمن الضائع" فتحا كبيرا واكتشافا يليق بجهد الرجل وهو الأمر الذى دفع هذا الوقت النقادالكبار كسمير فريد وسامى السلامونى وهاشم النحاس وحتى أحمد الحضرى إلى الترحيب بهذا الاكتشاف وتدشينه كعمل بحثى رائد وإن لم ينل كامل حقه كمكتشف طليعى حتى الان.. وطبعا الشئ بالشئ يذكر لا نعرف حتى الآن هل تم صيانة هذا الشريط وإصلاح عيوب الزمن فيه وإيلاءه ما يستحق من اهتمام باعتباره الرائد لأقدم سينما بالمنطقة أم لا..؟!
وهو ما يثير دائما مطالبتنا الدائمة – واليائسة – بسرعة إنشاء مشروعا قوميا لأرشيف السينما المصرية المعرضة للضياع وتلك التى ضاعت فعلا.
المهم
ساهم النجاح النقدى للفيلم التسجيلى إلى بروز اسم القليوبى كصانع أفلام فاتجه إلى السينما الروائية وإخراج أول أفلامه ((ثلاثة على الطريق)) سنة 1993 وحقق به نجاحا تجاريا لافتا مكنه من التعامل مع السينما التجارية فى مصر وصنع أفلاما هامة مثل "البحر بيضحك ليه" و"اتفرج يا سلام" و"خريف أدم" إلى أن تم انتدابه من المعهد العالى للسينما ليصبح رئيساللمركز القومى للسينما.
كان القليوبى رئيسا يتمتع بشعبية كبيرة بين طلاب المعهد وحتى بين موظفى المركز وكان فاروق حسنى وزير الثقافة يحبه ويسانده حتى جاءت الأزمة التى كانت سببا فى إنهاء خدمته بالمركز والتى سنخصص لها مقالنا القادم إذ تتصل بكل ما نكافح من أجله من عشرات السنين وعلى رأسه اللحاق بالعصر عن طريق حفظ تراثنا السينمائى الضائع والمتفرقة أشلائه بين جهات عديدة لا يدرك معظمها أهمية ما تحتويه تلك الشرائط من تاريخ وجغرافيا وانثربولوجى وذكريات لا غنى عنها لأى شعب يقدر قيمة الثقافة والفن باعتبارهما قيما معيارية للتقدم والحضارة.
ولكن المشهد الحزين كان سنة 2001 وقبل أيام من مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة الذى تمكن القليوبى من إعادته للوزارة ونظم له كل شئ ودعا كل ضيوفه.. وبعد أقل من سنتين من تعيينه رئيسا للمركز سنة 1999.. دخل القليوبى إلى مكتبه ولم يلحظ بكاء صامتا للعاملين بالمكتب ثم فوجئ بالجرائد التى وضعوها أمامه – خشية من إبلاغه بالخبر وجها لوجه – وبها قرار إقالته من منصبه دون أى مقدمات أو أسباب أو حتى إبلاغ يجنبه هذه المهانة.. وبنبل الفرسان جمع القليوبى أوراقه ووضعها فى حقيبته وغادر المكان الذى أحبه وأخلص له.