‫محمد عبد المنعم شرباش‬‬‬‬‬‬‬

الذين يَنْتَخِبون ثم يَنْتَحِبون

الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 06:00 م


بعد أن فرغ "مالك بن دينار" من أداء صلاته بأحد مساجد الكوفة اكتشف سرقة مصحفه... فجمع كل من بالمسجد وخطب فيهم... يذكرهم بعذاب الله وانتقامه... حتى بكوا جميعا... فأطلق صرخته المفعمة بالدهشة والسخط فى وجوههم قائلًا: "كلكم يبكى فمن سرق المصحف...؟!"


ويحضرنى هذا الموقف بشدة وأنا أشاهد على الساحة هذه الأيام الموقف الانتخابى والجدل الهادر حول ما أطلق عليه عمليات "شراء أصوات الناخبين"... فقد انبرى الجميع يصبون جآم غضبهم على هذا السلوك الذى يجسد نمطًا من أنماط نخاسة العصر الحديث... فتعالت صيحات الاستنكار والنحيب... على حد سواء من الناخبين... والمترشحين... والذين باعوا أصواتهم... وسماسرة العملية ومتعهدى دفع المال... جميعهم يستنكرون وينتحبون... لتبقى الحقيقة غائبةً وتبقى صرخة "بن دينار" واجبةً فى مواجهة هذا النحيب الجماعى من كل الأطراف، ويبقى الجناةُ مستترين... بعد أن تبرأ الذين انتُخبوا من الذين انتَخبوا ورأوا الهوان وتقطعت بهم الأسباب.


وثمة أمر بالغ الخطورة فى هذا السياق... إذ يتبنى الكثيرون خطابًا مهادنًا للذين يبيعون أصواتهم... يلتمسون لهم العذرَ تحت وطأةِ العوزِ والفاقة... وهو ما يمثل خطورةَ حقيقيةً على قيمٍ المجتمعٍ وأخلاقياته؛ إذ يقدم التبرير للانحراف والجرائم تحت ستار الرحمة ورقة القلوب... ويعضد ذات الذريعة الأبدية التى يشهرها تجار المخدرات واللصوص وقاطعو الطرقات فى وجوه المحققين... مبررين جرائمهم بضيق العيش، فبائع صوته والقائم بشرائه والوسيط على قدم المساواة فى الجرم والمسئولية عن جريمة أخلاقية، لا تقل إثمًا قانونيا ودينيا وأخلاقيا عن جريمة شهادة الزور.


لقد آن الأوان أن نعترف بأن بيت الداء فى العملية الانتخابية هو "الوعاء الانتخابي" الذى يعج بأصواتٍ وسلوكياتٍ وعاداتٍ وموروثاتٍ وأباطيلَ تنال من نقاوته المنشودة وتؤثر على رشد وشفافية الاختيار ولعل من أكبر الآفات التى تَصٍمُ الوعاء الانتخابى هى جريمة "شراء الأصوات".


وقد جعل قانون مباشرة الحقوق السياسية من هذا السلوك جنحة معاقبًا عليها بالحبس أو الغرامة أو كليهما، وعبر عن هذه الجريمة بالمادة 65 واصفًا إياها بأنها كل من "أعطى آخر أو عرض أو التزم بأن يعطيه أو يعطى غيره فائدة لكى يحمله على الإدلاء بصوته على نحو معين أو الامتناع عنه وكل من طلب أو قبل فائدة من ذلك القبيل لنفسه أو لغيره"... إلا أنه فى أغلب الحالات يصعب عمليًا إثبات هذه الجريمة، وهو ما نرى معه قيام المشرع بإعفاء المبلّغ عنها من العقاب... على نحو ما هو معمول به بجرائم الرشوة فى الجرائم المتعلقة بالموظف العام... كما نرى أن توضع عقوبة ملائمة تصل إلى الجناية... للذين يديرون هذا النشاط كوسطاء، كذلك نرى ألا يقتصر التجريم على مجرد العطية أو الوعد بها... وإنما يمتد إلى كل ما من شأنه التأثير بالزيف على قرار المواطن... لتدخل فى نطاق التجريم الدعاية الكاذبة... تلك الدعاية التى تنسب إلى المترشح ما لم يقم به وما ليس له فيه فضل.. باعتبار ذلك أحد أنماط تزييف الوعي... وما أكثر الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يُحمَدُوا بما لم يفعلوا.


إن الواقع العملى يفرض على المشرع أن يتبنى أفكارًا ونظرياتٍ خارج الصندوق وأن يحطم التابوهات التاريخية التى أحاطت بالانتخابات... حتى لا تصير العملية الانتخابية إجراءً أبعد ما يكون عما أريد له... وليقطع يد المغرضين الذين يسعون لتحويلها ساحةَ نزالٍ لضغائنَ عائليةٍ... وأحقادٍ موسميةٍ... ويصير المترشحون -ربما عن غير إرادة منهم- يقودون حربًا بالوكالة عن آخرين... ضد أخرين... ينضم إليها كلُ مغرضٍ أو صاحبُ مصلحةٍ أو باحثٌ عن دورٍ تحت ستارٍ زائفٍ من الشعارات... ليكتشف الأنقياء بعد ذلك كم خدعوا ونالهم تزييف الوعى... فنراهم يعضون نواجذ الندم... ولسان حالهم يقول... "ليتنى لم اتخذ فلانًا خليلًا".




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة