قياتى عاشور

"ديكتاتورية التريند": حين يتحول المجتمع إلى "محكمة تفتيش" إلكترونية

الإثنين، 15 ديسمبر 2025 10:15 ص


قديماً، كانت الحكمة السائدة تقول: "إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب". لكن يبدو أن هذه العملة الذهبية لم تعد صالحة للتداول في "بورصة" العالم الافتراضي اليوم. لقد استيقظنا فجأة لنجد أنفسنا في واقع جديد لا يكتفي بأن يمنحك حق التعبير، بل يفرض عليك فرضاً أن يكون لك "موقف" فوري وحاد من كل شاردة وواردة، وإلا وضعتك الجموع في خانة "السلبية" أو "الجهل".


نحن نعيش اليوم ما يمكن تسميته سوسيولوجياً بـ "ديكتاتورية التريند". إنه نظام سلطوي غير مرئي، لا تحكمه دساتير واضحة، بل تحكمه "الخوارزميات" (Algorithms) وانفعالات اللحظة. في هذا النظام، تتحول منصات التواصل يومياً إلى ما يشبه "محاكم التفتيش"؛ حيث تُنصب المشنقة المعنوية لشخصية عامة، أو لفتاة أخطأت التصرف في فيديو عابر، أو حتى لمواطن بسيط خانه التعبير في تعليق، ليجد نفسه فجأة خصماً للملايين.


الخطورة هنا لا تكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل فيما تفعله بنا كبشر. إننا نشهد تطبيقاً حرفياً لنظريات "سيكولوجية الجماهير"، ولكن بنسخة رقمية أكثر شراسة. فبمجرد أن ينخرط الفرد في "الهاشتاج" أو "الحفلة"، تتلاشى شخصيته المستقلة، ويذوب وعيه النقدي في "الوعي الجمعي" للقطيع. يصبح الهدف ليس "معرفة الحقيقة"، بل "المشاركة في الرجم"؛ لأن مخالفة التيار الجارف قد تعني أن تصبح أنت الضحية التالية.


هذا الضغط الاجتماعي الرهيب خلق ما يُعرف في علم الاجتماع السياسي بـ "دوامة الصمت"؛ حيث يفضل العقلاء وأصحاب الرأي المتزن الانزواء والصمت، خوفاً من الاغتيال المعنوي الذي تمارسه "الأغلبية الصاخبة". والنتيجة الطبيعية لذلك هي سيادة الصوت العالي، والانفعال اللحظي، والأحكام المطلقة التي لا تقبل النقاش. لقد تحولنا دون أن ندري إلى قضاة قساة، نُصدر أحكام الإعدام الاجتماعي بضغطة زر "مشاركة " (Share)، متناسين أن خلف هذه الشاشات بشر من لحم ودم، قد تدمر حياتهم كلمة كتبناها ونحن نحتسي القهوة باسترخاء.

المفارقة المؤلمة هي أننا جميعاً نشتكي من "قسوة المجتمع" وغياب الرحمة، في حين أننا نمارس هذه القسوة يومياً بأصابعنا على لوحات المفاتيح. لقد أصبح البعض يستمد شعوره بـ "القوة" و"الأهمية" من عدد علامات الإعجاب التي يحصدها حين يهاجم أحدهم، وكأننا في حلبة مصارعة رومانية قديمة، الجمهور فيها هو الحَكَم والجلاد في آن واحد.


في نهاية المطاف، ربما علينا أن نتذكر أن "حرية الرأي" تشمل أيضاً حريتك في "ألا يكون لك رأي" في كل شيء. ليس مطلوباً منك أن تكون خبيراً اقتصادياً في الصباح، ومحللاً رياضياً في الظهيرة، وقاضياً أخلاقياً في المساء. أحياناً يكون "التمهل" هو قمة الوعي، ويكون "الصمت" ريثما تتضح الرؤية هو أرقى درجات الشجاعة. فلنرحم أنفسنا ومجتمعنا من هذا الضجيج، ولنتذكر أن الكلمة مسؤولية وأمانة، وليست مجرد "بوست" عابر يمحوه الوقت.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة