أكثر من شهرين على دخول اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة حيز النفاذ، وأقل قليلا من ثلاثة أشهر منذ إعلان المسودة الأولى لخطة ترامب، فى اجتماع الرئيس الأمريكى مع قادة وممثلى ثمانى دول عربية وإسلامية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر الماضى.
جرت فى النهر مياه كثيرة؛ لكنها لا تكفى حتى الآن لحمل سفينة التسوية إلى مرفأ آمن. ويصعب الجزم بما إذا كانت الصورة إيجابية أو سلبية؛ لأنها ما تزال معلقة فى الفراغ، بلا جدار أو برواز.
كل الاحتمالات واردة، من أدناها كلفة إلى أعلاها فى مخاطر السيولة والتحريف؛ وإن ظل الوسطاء على أرض صلبة لا يتزحزحون عنها، وبدا أن واشنطن راغبة فعلا فى إنجاز المهمة لمنتهاها، مع الحذر طبعا من أنها ربما تُضمر غير ما تُعلن.
انقضت المرحلة الأولى من الصفقة المقسمة إلى ثلاث مراحل: تمهيد وتثبيت وتأبيد. من إنهاء الحرب، إلى الفصل بين المتحاربين، ثم إطلاق ورشة الإعمار وإعادة تطبيع الحياة فى القطاع.
وكانت إسرائيل قد ارتضت فى تفاهمات سابقة بخطط يتوزع فيها الرهائن على صفقات جزئية بأعداد محددة من تسليمات الأحياء والقتلى، ما يعنى عمليا أن جثمان الضابط ران جفيلى، آخر الباقين فى غزة، لا يشكل عقبة فعلية فى طريق الانتقال إلى الحلقة التالية من الترتيبات على طريق اليوم التالى، لا سيما أن الفصائل لا تنكره أو تماطل فيه، بل تواجه صعوبات ميدانية حقيقية فى الوصول إلى الرفات المطمور تحت الأنقاض.
وبهذا؛ فالتمسك به شرطا قبل العبور إلى ما بعده من التزامات، ليس أكثر من ذريعة يخفى نتنياهو وراءها رغبته فى عدم الانتقال، أو تطلعه إلى إفشال الخطة من الأساس، وهو ما لا يغيب عن وعى الإدارة الأمريكية بالتأكيد.
يضيق هامش الوقت الفاصل عن عيد الميلاد. وكان المتردد خلال الأسابيع الماضية أن ترامب يسعى لإعلان مفاتيح المرحلة التالية على الأقل قبل موسم الاحتفالات الذى يحل فى غضون عشرة أيام تقريبا.
والأرجح أن الجهود الجارية لن تُثمر عن وقائع ملموسة قبل زيارة نتنياهو لولاية فلوريدا أواخر الشهر الجارى. ما يُرجح أن الدعوة لها صفة الاستدعاء، بغرض التوافق على المخطط الزمنى والإجرائى، وتمرير ما يُناكف فيه الحليف الصغير بقوة الإملاء، وتحت ضغط رقابة وثيقة وحصار أقرب إلى التحفظ على الأشقياء الخطرين.
تلوّح واشنطن من بعيد، فيما تحتفظ بالآجال لنفسها حتى الساعة. ولا تخلو مقاربتها من مناورة مع الطرفين: بين الضغط على الفصائل ببدائل من خارج صندوق الأفكار المطروحة سلفا، ومناورة الوسطاء بأن إنفاذ المتفق عليه قد يتعطل، أو يتحول إلى صيغة مُغايرة، ما لم يُقدم الفاعلون فى المشهد على الانخراط فى قوة الاستقرار المقترحة، وقد وصلت رسائل بهذا المعنى للقريب والبعيد، بمن فيهم أوروبا التى يُطلَب منها أن تُدلل على مواقفها المعنوية بالمشاركة المادية فى المسار المطروح.
وأخيرا، تستبق لحظة الإبراء وكشف الأوراق النهائية بتسريب اسم الجنرال جاسبر جيفرز متقدمًا بورصة الترشيحات لقيادة القوة الدولية، ومطالبة تل أبيب بتحمل تكاليف رفع الركام من غزة، بحسب ما نُشر مؤخرا مشمولا بتأكيدات من مصادر إسرائيلية عن قبول المطالبة الأمريكية.
وإن صحت الفكرة الأخيرة؛ فإنها تنطوى على تغير كبير للغاية، ليس من جهة الخلاص من عبء نحو 68 مليون طن من الردم فحسب، يُحتَمل أن تتكلف عشرات ملايين الدولارات، بل لأن فيها إقرارا ضمنيا وتفعيلا عمليا لمبدأ المسؤولية، وما يترتب عليه من إلزام للاحتلال بالشراكة فى جبر الضرر.
وهو ما قد يفتح الباب لاحقا لمطالبات من النوع نفسه بالإسهام فى ورشة الإعمار، أو الادعاء بالحق المدنى بحثا عن تعويضات للمضارين، والأهم أنه يؤسس لحال لا تُستَسهل معها خطوة العودة إلى الحرب، بعدما يتيقن الصهاينة من أن المغامرة لن تكون مجانية مثلما درجت عادتها فى العدوان على الآخرين، وأن الدولة ليست مستثناة من الالتزامات الأدبية والمادية على السواء، بغض النظر عن طبيعة الحُكم وخيارات الحكومات.
اختيار الجنرال جيفرز قد لا يكون نهائيا، ويمكن أن يتبدل من الآن حتى موعد الإعلان عن تفاصيل قوة الاستقرار ونطاق تكليفها وطبيعة المهام الموكلة إليها. الولايات المتحدة قالت إنها لن تضع أفرادا على الأرض، والمواءمة قد تفرض الاتفاق لاحقا على أن تكون القيادة لواحدة من دول الوساطة العربية الإسلامية، اتصالا بالخبرة المباشرة بالقضية ومع الفلسطينيين، أو لأن التواصل وقتها سيكون أسهل وهامش الحرج أقل.
وبعيدا ممّا ستؤول إليه الصيغة النهائية؛ فالاسم المطروح ينُمّ عن قدر من الجدية والاعتناء بإنجاح المهمة التى لن تكون سهلة على الإطلاق. ذلك أن المرشح يتولى قيادة العمليات الخاصة بالقيادة المركزية الأمريكية «سنتكوم»، وله سابقة خبرات ميدانية فى أفغانستان لسنوات طويلة، وفى المواجهة مع داعش على الجبهتين السورية والعراقية.
كما أنه ظل على رأس اللجنة الخماسية لمراقبة وقف الأعمال العدائية فى لبنان «الميكانيزم» لعدة أشهر، بموجب اتفاق نوفمبر 2024 السارى هناك رغم خروقات الاحتلال. أى أنه بجانب السيرة العسكرية، تتوافر لديه معرفة جيدة بالإقليم، ولا يفتقد حساسية الاتصال بالصراع العربى الإسرائيلى، فضلا على الوعى بخريطة الأصوليات الإسلامية، وطبيعة تحالفاتها العابرة للجغرافيا والمذاهب.
وغالب الظن، أن المبادرة إلى تمرير المقترح من الكواليس وخط التسريبات الإعلامية، تستهدف استباق مناورات نتنياهو المتوقعة، وفرض الأمر الواقع على مداولات الزيارة المرتقبة، وما يمكن أن يُثار من جانبه بشأن التمركزات العسكرية المقرر إنزالها في القطاع، وحدود العلاقة معها أو الشكوك المُتبادلة بين الجانبين بشأنها.
وغاية واشنطن هنا تسجيل الحضور على معنى الرقابة والضبط وتوفير الضمانات، فكأنها تُخطر تل أبيب بأن العملية لن تكون خارج مظلتها، وأن حدود التشغيب والانفلات من مقتضياتها غير مطلقة، كما تُطمئنها أيضا إلى أنها لن تتجاوز المطلوب أو تقصر فيه، بقدر ما تُطمئن بقية الوسطاء بأنها لن تترك المجال سائلا من دون حدود وضوابط، وما يتكفلون به بحسب الخطة، ستقابله التزامات من الطرف الآخر، لن تسهل عليه المراوغة فيها أو التحلل من قيودها؛ إذ سيكون من تبعات ذلك الاصطدام مع الحليف قبل الآخرين.
الملامح العامة ليست محل خلاف؛ أقله بين الولايات المتحدة وشركائها فى وساطة اتفاق شرم الشيخ. لكن الخطوط الحمراء لا تبدو واضحة لدى طرفى الحرب حتى الساعة، أكان لجهة الانسحاب وإطلاق عملية إعمار شاملة باتساع القطاع، أم فيما يخص إنهاء حُكم حماس ونزع سلاحها على ألا تكون شريكا بأية نسبة فى الإدارة الانتقالية. وكلاهما يُعوّل على النفاذ من الضباب الكثيف إلى عملية إجرائية غير ما نصّت عليه الخطة، وفى هذا تُقرأ الرسائل المترددة من الوسطاء وفيما بينهم على وجه غير دقيق.
اعتبرت الحركة أن تسليم واشنطن بفرض سلطتها الأمنية خلال الأسابيع الأولى من وقف الحرب، بمثابة القبول الضمنى لترشيد الحضور بدلا من إلزامها بالغياب عن المشهد، وأن تردد الدول المدعوة للمشاركة بقوّات يعبر عن رفض لتجريدها من سلاحها، وبالمثل تصوّر نتنياهو أن خشونة الصوت الأمريكى مع الحماسيين لاحقا دليل على المطابقة الكاملة لتصوراته، وأن الهدف لا يقبل التعديل أو القسمة على اثنين.
وأخطر ما فى تلك الاستنتاجات كان الوهم بأن الحديث عن غزة الجديدة مقابل أخرى قديمة تحت سيطرة الفصائل، يُثبّت موقفا نهائيا بالتقسيم، وتحريك خطوط التسوية، والتوقيع على خطة الإعمار شرق الخط الأصفر دون بقية القطاع.
لا أحد يستطيع الجزم بما تتقصّده الإدارة الأمريكية، لا فى غزة وحدها؛ بل فى كل نطاق آخر وأية قضية تتصدى لها. لا يظهر من البيت الأبيض إلا رأس جبل الثلج، وبقية الكتلة غاطسة تحت مياه ترامب الهائجة، وطبيعته المزاجية التى لا تستقر على حال.
والظاهر أنها تستحسن فكرة البدء بإعمار الشطر الشرقى الواقع تحت سيطرة الاحتلال، إنما التأويل لا ينصرف حتما إلى سعى لتفتيت القطاع، أو رغبة محسومة بتثبيت الخطوط الحالية، والمُرجّح أن هذا ما هداه إليه تفكيرها بشأن تحريك التسوية فى ضوء الحلول العملية المجزأة، وفرض الإرادة تحت سلطة النموذج، كشكل من أشكال السلام عبر القوة كما يعتمده ترامب.
وهو هنا لا يروم انتزاع نصف الشريط الساحلى الضيق من أصحابه الذين كانوا مختنقين فيه بكامل مساحته، بل مغازلة الحاضنة الاجتماعية ببديل مُغرٍ عن إدارة حماس، والتلويح للحركة نفسها بأنها ليست مخيرة بين بقائها وبقاء القطاع كما تظن، بل بين أن تكون شريكا فى الحل معها، أو مانعا له فى نظر الغزيين أنفسهم، فتكون الإزاحة الديموغرافية بمثابة استفتاء شعبى عليها أولا، ثم ضغطا معنويا بشأن مسؤوليتها تجاه القضية الوطنية كلها.
والأهم أنها قد تضعها فى مواجهة قاسية مع الباقين غربا، أو تخلّى طريق القضاء عليها بالحديد والنار حال استجابة المدنيين جميعا لوعد الحياة الجديدة خارج فضاء الأيديولوجيا وقبضة عناصر القسام.
سبق أن تحدث ترامب عن «الريفييرا»، وطرح مسألة التهجير صراحة ومن دون مواربة؛ ثم عاد عنهما معا فى خطته الموضوعة على طاولة التطبيق منذ أكتوبر الماضى. وخلاصة التحولات أنه لا يحمل أجندة معدة مسبقا، ولا يُحيط علما بالصراع فى جذوره وتداعياته، وكل ما يعنيه أن يتوصل إلى نجاحات يمكنه تسويقها، على أن تكون صالحة لتصويره صانعا للسلام، وقابلة للصرف أيضا فى بنك الاقتصاد والمنافع الأمريكية المباشرة.
واستراتيجيته للأمن القومى المعلنة قبل أقل من أسبوعين، تؤكد بوضوح أنه لا يضع المنطقة فى رأس قائمة الأولويات، ولا يستعير آليات إدارتها القديمة من أسلافه الجمهوريين أو الديمقراطيين.
غايته أن يُرشّد حضوره فيها، وينزع يده من ملفاتها ببطء ودون إرباك، على أن تُوكَل توازناتها إلى طبيعة العلاقات المباشرة مع الشركاء الإقليميين، وما يمكن أن يجمعهم بإسرائيل من اتفاقات ومصالح. وإذا كان ميسورا إنجاز مبتغاه من دون حل القضية الفلسطينية، وهو لم يتحدث عنها من الأساس؛ فليس بالإمكان التوصل إلى ترتيبات جيوسياسية صالحة للبقاء والاستدامة، من دون إجماع المحيط وثيق الصلة الصراع، وقبوله لصيغة الإدارة المتفق عليها للأزمة، على أن يأتى الحل لاحقا، أو لا يأتى؛ إنما لا يكون ذلك سببا فى تفجير قريب.
وباختصار؛ لا أُفق لتلك التمنيات كلها من دون تفعيل خطته بشأن غزة.
حماس تدور فى حيز مُغلق عليها وحدها، وليس فى مقدورها أن تُفسد مسار التسوية؛ وإن أرادت ذلك. العقدة كلها عند نتنياهو وحكومته، ومن ورائه شارع يهودى ينحو جهة اليمين المتطرف بغلظة واضحة، وقوى سياسية ضعيفة ولا توفر بديلا عن الحكومة الحالية بكل ما فيها من سوء وتناقضات ظاهرة للعيان.
الحركة أبدت قبولا للتنحى عن الحُكم، ثم رحبت بالكلام فيما يخص السلاح وأقدمت عليه دون محاذير صلبة، من أول التحييد والتجميد إلى الهدنة الطويلة بتعهدات صارمة، وأحسب أنها لن تُماطل طويلا فى فكرة النزع والتجريد نفسها.
أولا لأن ما لديها لم يعد يشكل فارقا فى التكتيك أو الاستراتيجية، وأنها فى حاجة إلى فسحة طويلة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق، وتعرف أن صورتها آخذة فى التحوّل داخل بيئتها، وقد زال وهج الطوفان ورصيده العاطفى تحت ركام الردم والأشلاء. المناكفة وتضارب التصريحات مجرد استكشاف للحدود والسكك المفتوحة، وبحث عن مخرج يحفظ لها ماء الوجه وما تبقى من كرامة فصائلية وطنية، وبما لا يجرح المبدأ الأصيل بالحق فى المقاومة. أى أن موانع الحماسيين يسهل قفزها جميعا، والعُقدة فى مانع وحيد اسمه بنيامين نتنياهو.
قبل أيام قال خالد مشعل إن شاغل غزة فى مقبل الأيام أن تنشغل بنفسها حصرا، وتركز على التعافى وإعادة الإعمار والحياة من جديد. أما أهم ما فى كلامه القول إنها «قدمت كل ما عليها وزيادة، ولا أحد يُطالبها بأن تُطلق النار أو تمارس حقها فى المقاومة».
لغة جديدة تماما على الشخص، ومن خارج قاموس الحركة كلها. وإذ تُعبر عن مقاربة واقعية تتلمّس حدود النكبة التى أفضى إليها الطوفان، فإنها تُقرّ من طرف خفى بأنها صارت فى مُغامرتها تحت ضغط الطلب، أو فى ضوء التزامات ترتبها المحاور والأحلاف، وتفوق حدود القطاع وقدرته على القتال أو الاحتمال.
ولعلها تُعبر عن شرخ فى جدار المُمانعة، قد يتبعه انفصال صريح، أو عن سيادة لأحد جناحى حماس على الآخر، ومعروف أن مشعل من الدائرة الإخوانية المتصلة بالعثمانية الجديدة، ولم يكن من رعاة مسار الاندماج مع الشيعية المسلحة أو المرحبين به. فكأن التنظيم يعيش مرحلة خلخلة ومخاض، وقد يتشكّل على هيئة مُغايرة، أو ينحل إلى أجنحة وتيارات أصغر وأضعف، ومع مقتضيات الابتعاث المقترح لما بعد الحرب، فربما يصفو الخليط المصهور عن تركيبة سياسية تكون أكثر انفتاحا على منظمة التحرير، وأقرب إلى المقاومة بوسائل غير ما درج عليه الحماسيون، لا فى العمل فقط، بل فى الامتدادات والتحالفات وصيغ الولاء والالتزام مع الشركاء والرعاة الخارجيين.
وإذا وضعنا كلام مشعل وغيره من قادة حماس، فى مقابل حديث رئيس أركان الاحتلال عن أن الخط الأصفر سيكون خط الحدود الجديد بين غزة وإسرائيل، ونقطة دفاع متقدم وهجوم مبادر؛ فالمعنى أن أهداف نتنياهو موضوعة خارج خطة ترامب أصلا، وبمعزل عن بنودها المنصوص عليها، وما يمكن أن يسفر عنه السير بها فى اتجاه التطبيق.
فإذا كانت الفصائل مقتنعة ضمنيا بالهزيمة؛ وإن كابرت فى الاعتراف بها، وتسدد الأثمان المتوقعة عنها فى النزول عن الحكم أو وضع السلاح جانبا، بلا فارق على الإطلاق فى التوصيف بين النزع والتجميد والتحييد باتفاق؛ فليس هناك ما يستوجب أن يتموضع جيش الاحتلال دفاعيا فى مواجهته، ولا ما يستدعى التحضر ميدانيا للهجوم عليه، وكل الحكاية أنهم يريدون قضم الأرض وتثبيت واقعها الحالى، انطلاقا من أطماع لا علاقة لها بالطوفان وحربه، واتصالا بأهداف تطهيرية ما تزال تقدم التهجير على كل اختيار آخر.
الخط الأصفر حاليا يُشبه الفالق النفسى العميق بين شرق أوروبا وغربها خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، ويُريد نتنياهو أن يحوله إلى جدار برلين، وأن يمنحه ديمومة تفصل بين نسختين من غزة الواحدة. والتحدى ليس فى تكسيره فحسب؛ بل فى إزهاق فكرة إدخال الغزيين فى عصمة الاحتلال كما يُزج بالمعتقلين فى السجون.
بمعنى أن تُحسَم المسألة بشكل قاطع، خلاصته أنه لا سبيل لإزاحة السكان من منطقة إلى أخرى بحثا عن الحياة، بل أن تصل إليهم موجبات البقاء فى مناطقهم، وأن تكون عمليات الانتقال والحركة بين الأحياء مرجأة كلها إلى ما بعد تمام الانسحاب.
فخطّة ترامب تنص على تراجع الاحتلال من الخط الأصفر إلى الأحمر مع نشر قوة الاستقرار الدولية، ومن دون رسم خطوط حمراء بشأن إعمار الجغرافيا وعلاقته بالديموغرافيا، ستتجدد الأزمة حتى لو وافق نتنياهو على التقهقر للوراء، وسيتغير لون جدار برلين المقترح من الأصفر للأحمر، وتتقلص البقعة المحبوسة وراءه بنحو 20 أو 30% من مساحة القطاع فحسب، مع بقاء المفاهيم التسووية ومبادئ الحل غائمة ومعرضة للمراوغة ومحاولات الاحتيال.
يرى نتنياهو فى المرحلة الثانية كابوسا لحكومته، أولا لأنها قفزة واسعة للوراء لن يمكنه الرجوع عنها لاحقا، وستستدعى بالضرورة توفير فرص البقاء لأكثر من مليونى غزى فى نحو أربعة أخماس القطاع، ولن يكون ضامنا فيها الفوز بصورة النصر الكاملة على حماس وبقية الفصائل الرديفة، لأن إرادة واشنطن قد تذهب إلى التوافق على تجميد السلاح تحت رقابة عربية أو دولية بدلا من نزعه فيما يشبه إطلاق رصاصة قاتلة على الحركة.
وفى المقابل؛ فإنه لا يستطيع التنطح لأبعد مما تتبدّى فيه أمارات الغضب على وجه ترامب، وهو فى حاجة ماسّة إليها لتصفية أزماته الداخلية واقتناص العفو عنه فى قضايا الفساد، وربما الضغط على لابيد وغيره من يمين الوسط للعمل معه قبل الانتخابات أو بعدها.
وبهذا؛ فمخرجه الوحيد أن يُطيل حبل الانتقال، ويستفز الفصائل والوسطاء، مراهنا على تطوع حماس كعادتها بإبداء الرفض وتجنيبه كلفة التحدى مع الحليف، أو أن تتكفل المناخات الإقليمية المضطربة بإذكاء عواصف التنازع وعدم للاتفاق، وإطلاق رصاصة الإفشال على المسار المقترح.
يخوض العجوز الماكر مناورة طويلة ومعقدة لإنهاء الاتفاق دون اصطدام بالرئيس المزاجى الذى لا يتسامح مع الطاعنين فى ذاته المتضخمة. يُراهن على أعدائه بالخارج؛ ليهرب من الفخاخ التى يعمقها له أعداء الداخل.
وهو فى ذلك يتطلع إلى إبطاء إيقاع العبور إلى المرحلة الثانية، وإبقاء قوة الاستقرار عنوانا من دون مضمون أو مشاركين، ما يعطل بالضرورة أى جهد بشأن التعافى المبكر وإعادة الإعمار. وقتها فقط سيتجرأ على أن يصارح سيد البيت الأبيض بالورقة التى يطويها فى جيبه بالفعل: الفلسطينيون والعرب لم يحترموا رؤيتك أو ينخرطوا فيها بجدية وإقبال؛ فلتترك هامشا لصديقك الوفى «بيبى» ليخلق البديل الإسرائيلى المناسب.
وهو ما يجب ألا يناله تحت أى ظرف، على أن يبحث الوسطاء عن خيارات لا تمكّنه من مواصلة التهرب من الالتزامات، ولا من تعليق التعطيل فى غير رقبة إسرائيل.
الحل فى أن تُبادر دول الوساطة، بمواكبة عاقلة من الفصائل، وأن تُدعى العواصم الأوروبية للمشاركة فى قوّة الاستقرار وفق بنود خطة ترامب، وفى ضوء قرار مجلس الأمن رقم 2803.
الثوابت ألا يبقى الاحتلال عند الخط الأصفر، ولا أن يُصار إلى الإعمار تحت وصايته. وما دون ذلك يُمكن أن يتحرك تباعا مع وجود القوات وانتشارها على الأرض، وبعد أن يتحقق التدويل، ويجد الاحتلال نفسه فى مواجهة حضور دولى تحت قيادة أمريكية، أو بإشراف مباشر من ترامب، ومُحدّدات واضحة يُثبّتها المشاركون فى تصوّرهم الجماعى عن طبيعة القوّة ومهامها وأدوارها، مع تلزيم واشنطن بالمسؤولية عن إسرائيل وأن تكون ضامنًا لسلوكها أمام الدول المشاركة؛ وكلما اتّسعت قائمة المشاركين زادت فعالية الخطوة وانضبط مسيرها.
غزة واحدة، لا شرقية ولا غربية. ويجب أن يُنسف «جدار برلين» المأمول فيه من جذوره، وألا يكون الخط الأصفر ولا أى لون آخر موطئ قدم لأبعد من الانتقال وتسليم المهام إلى الإدارة المدنية، مشمولة بمظلة القوّة الدولية والشرطة الفلسطينية، ومجلس السلام المقترح. نتنياهو ليس فى وضع مثالى، ولا أوراق لديه ليتشبّث بها أو يُقايض عليها؛ إنما المهم ألا تستدير حماس على نفسها، وتُلقى إليه طوق نجاة جديدا كما فعلت قبل سنتين فى طوفان السنوار.