لدينا جميعا انطباع راسخ عن نجيب محفوظ بكونه رجلا هادئا، مستقر النفس، بلا انفعال زائد، خطواته محسوبة، وابتسامته قصيرة ومقتصدة، يبدو دائمًا يراقب العالم فى صمت، إلا أن هذا الهدوء ليس سوى السطح الذى يراه الناس، أما فى العمق، فى المكان الذى تتشكل فيه الكتابة وتتولد فيه الحكاية، فهناك شىء آخر تماما، بركان دائم الحركة، روح وثابة، وفن لا يعرف السكون.
فحين نراجع تجربة محفوظ، لا نجد كاتبًا مستقرًا فى قالب واحد، ولا نجد صاحب طريقة ثابتة أو رؤية جامدة، فالرجل الذى نتصوره ساكنًا كان فى الحقيقة فى حالة تغيير مستمر، كل مرحلة من حياته الإبداعية كانت بمثابة بداية جديدة، وكأن محفوظ فى كل مرة يعيد تقديم نفسه للقارئ بوجه مختلف، بل وبفكر جديد أحيانًا، ولذلك لم يكن غريبًا أن يقسم النقاد مشروعه الأدبى إلى مراحل واضحة، رأوا فيها انتقالات كبرى تمثل ثورات داخل عالمه الخاص، نجيب محفوظ لا يشبه نجيب محفوظ فى كل مرة. هناك محفوظ الواقعى، ومحفوظ التاريخى، ومحفوظ الصوفى، ومحفوظ الفلسفى، ثم محفوظ صاحب الرموز والكتابة الحديثة التى تخطت البناء التقليدى للرواية العربية.
المرحلة الأولى فى حياة صاحب نوبل كانت مرتبطة بالكتب التاريخية التى استلهم فيها عوالم مصر القديمة، ورأى فيها النقاد إرهاصًا أوليًا بالانتماء للحضارة والبحث عن الجذور. كتب محفوظ فى تلك المرحلة روايات مثل «كفاح طيبة»، «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، وهى أعمال لا تزال تمنحنا تصورًا عن بداياته الأولى، وعن شغفه باستعادة التاريخ بعيون الإنسان العادى، لا بعيون الملوك والقادة وحدهم. غير أن هذه المرحلة لم تكن محطة طويلة، إذ انتقل محفوظ بعدها انتقالة جذرية إلى عالم الواقعية الاجتماعية، وهناك بدأ الكاتب الحقيقى الذى نعرفه اليوم فى التكوّن.
فى رواياته الواقعية، اكتشف «محفوظ» القاهرة كما لم يكتشفها أحد، الأزقة، الحارات، الطبقة الوسطى، الفقر، الصراع الطبقى، الطموح، الفساد، الدين، العائلة والانحراف الأخلاقى. صارت مصر بإنسانها اليومى مادة أساسية فى كتاباته، وصارت شخصية البطل ليست فردًا بل مجتمعًا كاملًا، من هنا جاءت الثلاثية الخالدة «بين القصرين - قصر الشوق - السكرية»، وجاءت معها روايات أخرى أصبحت علامات فى الأدب العربى، مثل «القاهرة الجديدة»، و«زقاق المدق»، و«خان الخليلى»، و«السراب».. فى هذه المرحلة بدا محفوظ كمن أعاد رسم القاهرة بالحبر لا بالخرائط. كان ينظر إلى البشر نظرة فاحصة، ويكتبهم دون تجميل، ليكشف ما يخفيه المجتمع تحت السطح من قهر وأحلام مكسورة.
لكن ذلك لم يكن آخر التحولات، بعد هزيمة 1967 جاءت مرحلة جديدة: مرحلة القلق والأسئلة الكبرى، لم يعد محفوظ منشغلًا بالحارة المصرية وحدها، بل صار يبحث عن مصير الإنسان كله، عن العدل والمعنى والوجود. كتب «ثرثرة فوق النيل»، و«السمان والخريف»، و«ميرامار»، وفى هذه الأعمال كان صوت الفلسفة أعلى، والأسئلة أكثر حدة. لم يعد محفوظ يسرد فقط، بل يفكر ويستجوب ويعيد النظر فى المسلّمات. اختفى النمط القديم لصالح كتابة تمزج التحليل بالخيال، السياسة بالوجدان، والسؤال الفلسفى بالثورة الداخلية. حتى القارئ لم يعد المتلقى البسيط، بل صار شريكًا فى إنتاج المعنى، مضطرًا إلى أن يفكر ولا يكتفى بالمتعة.
ثم جاءت مرحلة أخيرة، ربما الأكثر جرأة وتجريبًا: مرحلة الرموز وتجليات الفلسفة الصوفية. هنا كتب محفوظ أعمالًا مثل «أولاد حارتنا»، «الحرافيش»، «ليالى ألف ليلة»، و«رحلة ابن فطومة». فى هذه الأعمال لم يعد محفوظ فقط ينقل الواقع، بل صار يعيد صناعته. تحولت الرواية إلى نموذج كونى اكتسب دلالات فلسفية عميقة، وتحوّلت الحارة إلى عالم يشبه الدنيا، والفتوة إلى القوة، والغلام إلى الإنسان الباحث عن الحرية. لم يعد محفوظ يراقب فقط، بل صار يعيد ترتيب الخريطة الروحية للعالم على الورق.
هكذا يتبين أن الهدوء الظاهر ليس أكثر من قشرة. خلفها يقف نجيب محفوظ المغامر، المجدد، الإنسان الذى لم يسترح أبدًا عند بداية واحدة. لم يقف عند مرحلة ليتملكها، بل كان كلما استقام له أسلوب خاض مغامرة أسلوب آخر، ولذلك فإن قراءة محفوظ ليست فقط قراءة لأعمال متعددة، بل هى رحلة داخل روح تتغير باستمرار.
إن سر محفوظ الأكبر يكمن فى هذه القدرة على التحول، لم يكن ثابتًا بل كان حياة، لم يكن سكونًا بل كان حركة. لم يكن صوتًا واحدًا، بل عشرات الأصوات التى خرجت من القلم نفسه، من اليد نفسها، ومن عقلٍ واحدٍ استطاع أن يجعل الأدب العربى مساحة صالحة للدخول إلى العصر الحديث.
نجيب محفوظ
كتب أحمد إبراهيم الشريف