هدأت الحرب وتوقفت بعد استمرارها قرابة العامين، ولكن آثارها ظلت باقية بسبب استهدافها كلّ القطاع وتحويله إلى ركام فقط. فلم يعد هناك مكان أو شبر واحد لم يعد شاهدًا على الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني بحق سكان قطاع غزة العُزّل البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، نصفهم من الأطفال الذين لم تقتصر معاناتهم على القتل أو الإصابة أو فقد الأحبة، وإنما أصبحوا يعانون من "الجروح غير المرئية"، وهي الصدمات النفسية.
تسببت المذابح في إصابة آلاف الأطفال دون سن 18 عامًا بالعديد من الأمراض النفسية، ومنها التبول اللاإرادي والخرس الصدمي، التي تتطلب — بحسب المختصين والمنظمات الأممية — علاجًا طويلًا قد يستهدف عدة أجيال للتعافي، بعدما قُدّر لهم أن يكونوا شهود عيان على حرب إبادة شنّها العدوان الصهيوني. فالمباني والمنشآت خُرّبت، والمرافق الحيوية لم تعد صالحة، والذكريات محيت، والأُسر والعائلات تفككت ما بين قتيل ومصاب ونازح ومفقود، والمدارس والجامعات تعطلت، والمستشفيات والمراكز أغلبها خارج الخدمة، والمواد الغذائية والطبية تعاني من عجز شديد ونقص كبير في الكميات. فكان من الطبيعي أن تنعكس تلك الآثار على الصحة النفسية للأهالي.
ويُعرّف الأطباء التبول اللاإرادي لدى الأطفال بأنه تسرب للبول يتكرر أثناء النوم عند الأطفال من سن الخامسة فما فوق، مرتين على الأقل في الأسبوع ولمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر متتالية. ويرجع الأطباء ذلك لأسباب متنوعة: منها ما هو جسدي بسبب عجز الجسم عن إنتاج الهرمون المسؤول عن تقليل كمية البول التي تنتجها الكلى ليلًا، أو بسبب متاعب والتهابات في المثانة نفسها، أو نتيجة التعرض لمشاهد عنيفة وصدمات نفسية مثل القتل والدمار وغيرها.

مشاهد من قلب الوجع
أمر معتاد
ظلمة حالكة، إلا من بعض الومضات التي تلمع وتضيء في السماء، ثم تهوي على الأرض مُحدِثةً دوياً عنيفاً وأصواتاً مرعبة تتسبّب في انهيارات المباني وتحولها إلى حطام في لحظات معدودة، مخلفةً عشرات الضحايا والجرحى والمفقودين أسفل الركام. هذه المشاهد التي اعتاد أهل غزة رؤيتها خلال العامين السابقين، ومنهم أسرة الطفلة غزل الأحمدي التي أصبحت تعاني خلال الآونة الأخيرة من نوبات الهلع والبكاء المستمر، والتي انعكسَت وتسببت في إصابتها بالتبول اللاإرادي، وهي في الثانية عشرة من عمرها، برغم عدم معاناتها منه سابقاً، بحسب ما تؤكده والدتها.
وتقول الأم، وهي ثلاثينية العمر وأم لأربعة أطفال: ثلاثة من الذكور وفتاة بعمر الثانية عشرة:
إن الأخيرة أصبحت تعاني من نوبات هلع وبكاء مستمر، مع إصابتها بتبول لا إرادي:
"ابنتي لم تكن تعاني من التبول اللاإرادي في صغرها، ولكن المفارقة الكبرى أنها عانت منه في سن الثانية عشرة من عمرها. وبرغم أنه أمر مستجد عليها، فإنني لم أستبعد إصابتها به نتيجة ما تعرضنا وما زلنا نتعرض له من مشاهد صادمة من قصف متتالٍ وسقوط ووفاة العشرات من جيراننا وأحبائنا، وتحول منازلنا إلى ركام ضمّ رفاة أحبائنا الذين لم نستطع حتى دفنهم. وعلى الرغم من الخطر الشديد الذي نعيش به، فإننا نرفض بكل إصرار ترك منزلنا، وإن قُدِّر لنا الموت فنموت ونحن بداخله."
خجل
حالة أخرى تخبر عن المعاناة التي يعيشها أهالي غزة وتُرجمت إلى إصابة أبنائهم بالتبول اللاإرادي، ومنهم المعز أبو زاهر (10 سنوات)، الابن الوحيد لأب بائع متجول وأم فقدت ساقها اليمنى في إحدى الغارات الجوية للاحتلال التي استهدفت الحي الذي كانت تقطن به وسط غزة، مما أدى إلى تدميره بالكامل.
ويقول الأب:
"اعتدت يومياً بعد العودة من العمل والاستعداد للنوم احتضان ابني، لكني لاحظت في هذه الآونة انصرافه عني وعدم رغبته في الاقتراب، وعند مناداته لا يستجيب، مع حرصه على البقاء ساكناً. حتى اكتشفت أن بنطاله مبتلّ نتيجة تبول لا إرادي، مع خجله من كشف ذلك لي. ولم يكن موقفاً عابراً، بل تكرر عدة مرات. وعلمت من الأطباء أن ابني يعاني من صدمة نفسية نتيجة المفرقعات والمشاهد القاسية من قتل وهدم التي تعرضنا لها نحن سكان قطاع غزة على مدار عامين كاملين."
شجاعة لم تدم
كان معروفاً بين أقرانه بقوته البدنية وشجاعته المفرطة، وكان يعشق منذ صغره أفلام الألعاب القتالية وأبطال الحركة مثل بروس لي وغيرهم، مما شجعه على ممارسة هذه الألعاب والتفوق فيها وحصد العديد من البطولات، بالتزامن مع تفوقه الدراسي. كل هذه الأسباب مجتمعة كانت مصدر فخر للأسرة. لكن في الآونة الأخيرة تغيّرت أحواله، وأصبح صاحب الخامسة عشرة دائم القلق والارتجاف والاستيقاظ فزعاً عند سماع أي أصوات ولو بسيطة، وبرغم خضوعه لجلسات نفسية، فإنه لم يتعافَ بعد.
ويقول والده: "يعاني ابني اضطراباً نفسياً حاداً نتيجة رؤيته وتعرضه لعدد من المواقف الصعبة، ومنها اقتحامات أفراد ومدرعات العدو الصهيوني للأحياء في غزة، والمذابح الدموية التي ارتكبوها بداخلها من قتل للأبرياء ومشاهد الدماء. كل هذه المشاهد والمواقف عملت على تحويل ابني، ومصدر فخري، رأساً على عقب، من شخص شجاع إلى إنسان متوتر يصاب بالهلع عند سماع أي أصوات عالية أو صخب، حتى لو كان لهو أطفال معتاد."
الاستيقاظ فزعاً
كان يحرص على حمل صورة أولاده والاتصال بهم بين الحين والآخر؛ طقوس اعتاد عليها للتغلب على اشتياقه لهم، فعمله الليلي واضطراره للمبيت في أحياء لا تسمح له برؤية أولاده بشكل منتظم. لكنه خلال هذه الفترة صار حريصاً على الاتصال بوالدتهم والاطمئنان على تنفيذها البرنامج النفسي الذي أعده أحد الأطباء المتخصصين في علاج الصدمات النفسية بعد إصابة أبنائه بالتبول اللاإرادي نتيجة الانفجارات والقصف المستمر للقطاع.
ويقول الرجل الأربعيني العمر، والأب لثلاثة ذكور أكبرهم في الثالثة عشرة:
"عملي الليلي الذي يمتد لصباح اليوم التالي لا يسمح لي بقضاء وقت كافٍ مع أولادي، فهم إما نائمون أو في مدارسهم. لكن بعد انتهاء العام الدراسي وخلال العطلة يكون لنا متسع من الوقت نقضيه معاً. اعتدت التواصل معهم والاطمئنان عليهم عبر الهاتف، ولكن مع بدء العدوان الصهيوني منذ عامين تعرض أولادي لصدمات عنيفة بسبب سماع دوي الانفجارات. وفي إحدى الغارات تم استهداف بناية مجاورة لنا، فاستيقظ أولادي على صوت تحطيم زجاج نوافذ غرفتهم، فأصيبوا بالهلع. وعند اصطحابهم للطبيب علمت أن الحادثة، بالإضافة إلى تراكم المواقف المشابهة، عملت على إصابتهم بالعديد من المتاعب النفسية تمثلت في التبول اللاإرادي."
ويضيف: "وضع الطبيب برنامجاً علاجياً تعمل والدتهم على تنفيذه، وأمل أن يجدي نفعاً. وبين الحين والآخر، بحسب ما تسمح به جودة الاتصالات، أتواصل معهم للاطمئنان على أحوالهم وسير البرنامج العلاجي."
كيف هذا؟
في خيمة من القماش البالي الذي لا يحجب شمساً ولا يقي من برودة الشتاء، تعيش هند. أ مع أسرتها المكونة من خمسة أطفال، دون الزوج الذي استُشهد على يد قوات الاحتلال خلال الحرب الأخيرة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023 واستمرت حتى 2025. داخل هذه الخيمة لا تشكو الأم قسوة الحياة وصعوبة الحصول على المواد الغذائية أو الرعاية الطبية، فهي تدرك جيداً الظروف التي ألمّت بقطاع غزة جراء العدوان الصهيوني، من تدمير كامل للمرافق والمؤسسات الطبية والتعليمية والحصار ومنع وصول المواد الغذائية والطبية. لكن ما يؤلمها هو معاناة أطفالها من الأمراض النفسية، سواء اكتئاب حاد أو سلوك عنيف، إلا أن أشد الأعراض ظهوراً كانت لدى ابنتها الكبرى (16 عاماً) التي أصبحت تعاني من تبول لا إرادي نتيجة المشاهد القاسية التي شاهدتها، بحسب ما تقول الأم.
وتقول: "شاهد أولادي العديد من المشاهد التي لم تكن في الحسبان، ولم يتخيلوا للحظة أن يمروا بها. فمنذ السابع من أكتوبر 2023 مروا بتجربة قاسية من الإجبار على ترك المنزل والانضمام لطابور النازحين والعيش في مخيمات، والمعاناة من الجوع والعطش والعيش في بيئة غير ملائمة وعدم الاستقرار المتمثل في النزوح المتتالي، والحرمان من التعليم بعد تهدم مدارسهم. لكن تظل أكثر المشاهد صعوبة هو رؤية الضحايا وسقوط العشرات. وكانت أكثر المشاهد دموية هو فرارنا تحت نيران القصف المتواصل."
وتتابع: "كنا نفر بلا اتجاه محدد. كنت أصيح على أبنائي دون رؤيتهم بسبب الغبار، وبعد انكشافه رأينا عشرات الجثث، ومن بينهم طفلة بلا رأس. لاحظت صمت ابنتي الكبرى فترة، وبعدها—وكأنها لم تكن مدركة ما حدث—بدأت في بكاء شديد وصراخ، وهي تتساءل: كيف يحدث هذا؟ ومنذ تلك اللحظة أصيبت بتبول لا إرادي يسبب لها إحراجاً يومياً بين أشقائها."
أهل الزوج
بعد تهدم منزلنا واضطرارنا للرحيل، أنا وزوجي وثلاثة من الأبناء في أعمار مختلفة، لم يعد لدينا سوى منزل أهل الزوج للعيش معهم. فالمنزل صغير على استيعاب أسرتين تتكونان من 15 فرداً، لكننا مضطرون للتعايش سوياً، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها غزة. وعلى الرغم من الحزن الكبير الذي يشعر به الجميع ومعاناة أولادي النفسية، فإن أكثر ما سبب لنا إحراجاً بالغاً هو إصابة أحد أبنائي (14 عاماً) بالتبول اللاإرادي، مما يزيد من حرجنا أمام أهل زوجي، بحسب ما ترويه الأم.
وتضيف: "أضطر في كثير من الأحيان للبقاء بجانبه في ساعات متأخرة من الليل كي أوقظه للتبول في المرحاض، لكنني كثيراً ما أفاجأ بأنه فقد القدرة على التحكم في نفسه وبلّل ملابسه. وما يزيد من صعوبة الموقف هو كِبر سنه بالنسبة لمشكلة التبول اللاإرادي، إذ إنه من الشائع أن يصيب بعض الأطفال خلال فترة زمنية معينة، مما يزيد من معاناته النفسية."
.jpeg)
لم يكن التبول اللاإرادي هو الشاهد الوحيد على معاناة أطفال غزة نفسياً، وإنما كان الخرس الصدمي حاضراً وبقوة بين الأطفال هناك. ويُعرَف الخرس الصدمي بأنه—إن كان القول المأثور يقول "السكوت من ذهب"—فإن الصمت في غزة لم يعد اختياراً، بل جبراً وخياراً لا مفر منه. فإذا كان البالغون في غزة قد يستطيعون التعايش مع تلك المشاهد، فإن انعكاس هذه المواقف التي عاشها الأطفال في سنهم الصغيرة، والأهوال الصعبة نتيجة حرب الإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، قد أفقدتهم الرغبة في الحديث أو التعبير، فيما يُعرَف بالخرس الصدمي، وهي ظاهرة تنتشر بقوة بين الأطفال هناك، بحسب برنامج الصحة النفسية في غزة.
التبول اللاإرادي، الكوابيس المستمرة، الفزع من الأصوات المرتفعة… كلها أعراض، لكن تظل أخطرها فقدان القدرة على الكلام رغم سلامة الأجهزة العضوية، نتيجة التعرض لمواقف نفسية صعبة لم يستطع الطفل التجاوب معها أو التعافي منها، فيبدأ لسانه بالانعقاد وشفاهه بالانطباق، ويدخل الجهاز العصبي في حالة أشبه بالتجمد، نتيجة عدم القدرة على التعامل مع الأحداث والواقع المأساوي الذي يعيشون فيه.
صدمة مزمنة
وبحسب تقارير ودراسات أممية، من بينها تقارير اليونيسيف وبرنامج إنقاذ الطفولة ومنظمة الصحة العالمية بين عامَي 2024 و2025، تشير إلى أن الأطفال في غزة يعيشون في حالة صدمة مزمنة ارتبطت بتكرار النزوح وفقدان الأقارب والانهيار الكامل لشروط الحياة الأساسية. وتكشف تلك الدراسات عن نسب مقلقة للصدمات والأمراض النفسية التي يعانيها الأطفال هناك نتيجة المذابح الدموية والعنف المفرط الذي يشاهدونه ويتكرر أمامهم يومياً، وهو ما يعمل على انهيار جيل بأكمله. وتُقدّر الدراسات أن أكثر من مليون طفل في غزة يحتاجون إلى دعم نفسي واجتماعي بشكل عاجل.
وأشارت اليونيسيف في تقرير لها إلى أن:
91% من الأطفال أبلغوا عن اضطرابات في النوم،
85% أبلغوا عن تغييرات في الشهية،
82% شعروا بغضب شديد،
97% شعروا بعدم الأمان،
47% طوّروا عادة قضم الأظافر بسبب الخوف والتوتر،
76% أبلغوا عن شعور دائم بالمرض.
كما تشير تقديرات اليونيسيف إلى أن ما لا يقل عن 17,000 طفل—أي 1% من الـ 1.7 مليون نازح في قطاع غزة—منفصلون عن ذويهم، ما يجعل تعويضهم عن الحاجات الاجتماعية المفقودة أمراً مستحيلاً.
ومن جانبه أوضح برنامج غزة للصحة النفسية في دراسة له: "أن كل طفل فلسطيني تعرض لأكثر من تسعة أحداث صادمة."
وأضافت الدراسة:
"95.6% من الأطفال شاهدوا صور الجرحى والقتلى، و95% تأثروا سلباً بسماع أصوات الانفجارات الناتجة عن القصف. تقريباً كل الأطفال تعرضوا لصدمات نفسية؛ حيث تعرّض 60% منهم لصدمة نفسية متوسطة، و6.7% لصدمة بسيطة، و33.3% لصدمة شديدة، و47% أصبحوا مصابين بصدمات نفسية دون أن تعي أسرهم ذلك. كما أن 30% من الأطفال الفلسطينيين ممن تقل أعمارهم عن عشر سنوات يعانون من التبول اللاإرادي."
أرقام صادمة
وكانت وزارة الصحة الفلسطينية قد كشفت في عدة بيانات سابقة عن أرقام صادمة توضّح حجم المعاناة التي خلّفتها حرب غزة الأخيرة، والمأساة التي يعيشها الأطفال هناك؛ إذ بلغ عدد ضحايا الحرب من الأطفال 15,694 طفلاً، وجُرح 34,000 منهم، كما فُقد 3600 طفل تحت الأنقاض، وبلغ عدد المختطَفين—في عداد الأسرى—نحو 200 طفل وفتى.
إلى جانب ذلك:
– 60,000 جنين في غزة مهددون بالإجهاض أو التشوهات الخلقية أو الموت.
– 40,000 رضيع لم يحصلوا على التطعيمات واللقاحات اللازمة بصورة منتظمة.
وأضافت البيانات:
"أكثر من 6000 طفل فقدوا أطرافهم أو أعينهم أو أصبحوا بإعاقة مستدامة. وهناك 17,000 طفل أصبحوا يتامى، 3% منهم فقدوا كلا الوالدين. واضطر أكثر من 700,000 طفل مع عائلاتهم إلى النزوح قسراً من أماكن سكنهم بفعل القصف المتواصل، كما فقد 650,000 طفل منازلهم التي تعرضت لتدمير جزئي أو كلي. هذا بالإضافة إلى أن 625,000 طفل أُجبروا على ترك مقاعد الدراسة وخسروا عاماً دراسياً كاملًا، كما أن 98% من أطفال غزة لا يجدون مياهًا صالحة للشرب."