لا ندعى قراءة الغيب، لكن توقعات بطلان الدوائر الجديدة كانت سابقة، وهناك توقعات أن تصدر محكمة النقض أحكاما أخرى ببطلان، وهى نتائج متوقعة لكل من تابع الانتخابات ويعرف القضاء المصرى، ومن المهم قراءة أحكام المحكمة الإدارية العليا، ومعها قراءة شاملة قدمناها على مدى أسابيع، دفاعا عنالدولة والجمهورية الجديدة فى مواجهة توجهات خارجة عن كل عقل ومنطق، من حيث الطبخة التى بدأت «مسمومة» مبكرا، ولا نعرف من وراء هذه الترتيبات لبناء مجلس شيوخ ثم مجلس نواب لا تتناسب مع تحديات تفرضها الأحوال والوقائع.
على مدى أسابيع وشهور، كانت الشكاوى والمناقشات همسا وعلنا ترفض الطبخة وتختلط الشكاوى بالأقاويل والشائعات عن أدوار للمال والنفوذ وتسرب من ليس أهلا للعمل العام إلى أخطر المجالس النيابية، ومر مجلس الشيوخ بما يحمله من ألغاز وعلامات استفهام وتعجب، ثم بدأت عملية انتخابات النواب كأنه لا شعب فى المكان، جلسات ضيقة وتقسيمات متعسفة، يعطى فيها من لا يملك من لا يستحق، وهو ما نبهنا له انطلاقا من مصلحة بلد واجه ولا يزال تحديات ضخمة ومر بها وتحملها وصبر، حتى تدخل الرئيس السيسى حكما بين السلطات ونبه إلى ضرورة التحقيق فى الشكاوى المتعلقة بالانتخابات، ودعوته للهيئة الوطنية للانتخابات أن تمارس دورها، ولو وصل الأمر إلى «إلغاء نتائج انتخابات البرلمان عند تعذر معرفة صوت الشعب»، «فيتو» الرئيس مثل سابقة مهمة، لأنه لا الحكومة ولا الهيئة ولا أى طرف اتخذ مبادرة لحماية حق الشعب فى الجمهورية الجديدة، وبدا مدركا مسؤولية مهمة،وبعد تدخل الرئيس تحركت مياه البركة الراكدة، وأبطلت الهيئة الوطنية 19 دائرة، وجرت المرحلة الثانية بشفافية أفضل لكنها بقيت ضمن عملية ترتيب سابقة لم تكن على المستوى المطلوب، وتفتقد أى حس سياسى أو حتى من واقع مصلحة البلد.
وبعد المرحلة الثانية، أصدرت الإدارية العليا نتائج 27 دائرة وتحويل طعون فوز المرشحين من الجولة الأولى للنقض، والدوائر الـ27 تضاف إلى 19 دائرة أبطلت نتائجها الهيئة الوطنية للانتخابات، هذا فى المرحلة الأولى فقط، وينتظر أن تصل بعض الأحكام ولكن بدرجات أقل فيما يتعلق بالمرحلة الأولى التى جرت بعد «فيتو» الرئيس وانتباه الهيئة، وبالفعل انعكست هذه الإجراءات بشكل كبير فى نتائج المرحلة الثانية، حيث فاز مرشحون محسوبون على المعارضة أو تقدم مستقلون فى مواجهة حيتان المال والنفوذ.
قضت المحكمة بعدم قبول 100 طعنٍ آخر لزوال شرط المصلحة لدى مقدميها، ليكتمل بذلك الحسم القضائى لأكبر جولة طعون انتخابية فى السنوات الأخيرة، وحسب تقرير الزميل أحمد عبدالهادى فى «اليوم السابع» فقد جاءت محافظة الجيزة فى الصدارة لعدد الدوائر التى أبطلها الحكم، بـ6 دوائر «البدرشين، بولاق الدكرور، العمرانية، الهرم، منشأة القناطر، قسم الجيزةـ وفى الفيوم شمل الإلغاء دائرة سنورس- وفى المنيا دوائر قسم أول المنيا، مغاغة، أبوقرقاص، ملوى، ديرمواس- وفى الإسكندرية قسم المنتزه- وفى الأقصر دوائر الأقصر، القرنة، إسنا- وفى أسوان بدائرتى نصر النوبة، إدفو- وفى الوادى الجديد قسم الخارجة- وفى سوهاج البلينا- وفى أسيوط دوائر قسم أول أسيوط، القوصية، أبوتيج- وفى البحيرة جاء الإلغاء فى دوائر المحمودية، حوش عيسى، الدلنجات، كوم حمادة».
نحن أمام واقع جديد تكشفه أحكام القضاء، لكننا أيضا فى الواقع نرى أن الأمر أبعد وأخطر من أحكام وبطلان، قلنا مرات ونؤكد أن مجلس النواب أو البرلمان بغرفتيه هو الأهم فى سلسلة البرلمانات، التى عرفناها بعد 30 يونيو، بل وبعد 25 يناير، لأنه يأتى فى مرحلة مهمة تتشابه فى التفاصيل والمطالب، والتحولات فى الإقليم والعالم، والداخل أيضا، ولهذا نأمل فى أن يكون هذا البرلمان معبرا عن خطورة وتحديات المرحلة المقبلة، وقراءة الخرائط، والتصورات والتحولات.
وعليه.. يفترض إعادة النظر فى ترتيبات القوائم، ومراجعة ما تم فى مجلس الشيوخ والنواب بشكل سياسى، لمعرفة مدى تعبير التركيبة عن طموحات ومطالب المصريين، وجمهوريتهم الجديدة، ومحاسبة كل من تسبب فى إخفاء أو تمرير معلومات يثبت عدم صحتها، وتنتج مجالس لا تناسب خطورة المرحلة وحجم التحديات، التى واجهت ولا تزال تواجه مصر، وكل هذا يتطلب بالفعل متابعة تقارير عن كل الخطوات والسياسات والملفات، التى تتعلق بحقوق ومستقبل المواطنين، بعيدا عن الأهواء والتلاعب.. قلنا إن المصريين يستحقون أفضل من هذا.
من جانبى، كتبت- قبل أسابيع وكررت- أن ما جرى من إهدار توصيات ونتائج الحوار الوطنى، كان إهدارا لوقت وجهد عشرات من الخبراء والسياسيين والحقوقيين، تحدثوا وتناقشوا فى محاور السياسة والاقتصاد والمجتمع وقدموا توصيات كان يمكن- حال تنفيذها- أن تمثل إشارات، وأجندة عمل، تسهم فى توسيع الحياة السياسية والتنوع والمشاركة، وكان الرئيس عبدالفتاح السيسى قد وجه الحكومة والبرلمان بدراسة التوصيات التى تعالج تقريبا الكثير من النقاط والثغرات، وتقدم حلولا مهمة، لكن الحكومة أدخلت التوصيات فى نفق اللجان والمنبثقات، والبرلمان اكتفى بما تم من جلسات، وتعاملت بعض الأطراف مع الشعب على أنه غائب، ويمكن تطبيخ الأمور بما تمرر المجالس من دون أى قواعد ولا مراعاة لوجود شعب واع، أغلبه خاض سنوات وتحديات صعبة وعركته الحياة.
كل هذه الإبطالات والأحكام دليل صحة، خاصة أن الانتخابات كشفت عن ضعف البنية الحزبية والسياسية، وغياب القدرة على الابتكار أو المبادرة، وهو ما يوفر فرصة لإعادة النظر وبناء سياقات سياسية تناسب المرحلة، حتى لو تم إلغاء العملية كلها والبدء على أساس سليم، فالوقت والجهد ليس أغلى من مستقبل يفترض أن يحرسه من يفقهون.