همس المشير محمد عبدالغنى الجمسى، وزير الحربية، فى أذن زميله إسماعيل فهمى وزير الخارجية، قائلا: «لقد أعادها مرة ثانية»، وصدم ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مما سمعه من الرئيس السادات فى خطابه أمام مجلس الشعب يوم 9 نوفمبر، مثل هذا اليوم 1977 وفقا لإسماعيل فهمى فى مذكراته «التفاوض من أجل السلام فى الشرق الأوسط».
يذكر فهمى: «كان المفروض أن يلقى السادات فى المجلس خطابا مكتوبا، غير أنه فجأة انحرف عنه، وأعلن منفعلا أنه على أتم الاستعداد للذهاب إلى أى مكان فى العالم حتى إلى القدس، ويلقى كلمة موجهة إلى الكنيست لو ساعد هذا على إنقاذ دم أبنائه، وصدم ياسر عرفات وتساءل: ما معنى هذا الكلام؟ هل يتعمد هذا القول فى حضورى، هل دعوتمونى لأسمع مثل هذا الكلام؟»، يذكر فهمى: «أكدت له أنه لم تكن هناك أى خطة لذلك، وأنها زلة لسان»، ويعلق فهمى، بأنه شخصيا لم يكن متأكدا مما يقوله لعرفات.
كان السادات حريصا على وجود «عرفات» فى القاهرة، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «خريف الغضب»، قائلا: «قبلها كان عرفات فى طرابلس، للتوسط بين مصر وليبيا لإزالة الخلافات بينهما، وظن أنه توصل الى حل ممتاز بتلقيه وعدا من القذافى بتقديم 500 دبابة جديدة لمصر، تعوضها عما كانت تشكوه من نقص فى إمدادات السلاح، وبينما كان عرفات مشغولا بهذه المفاوضات، تلقى رسالة من السادات تلح عليه فى الحضور فورا، وبعث إليه بطائرة خاصة لنقله، لكنه فى نفس الليلة غادر القاهرة وهو يقول لمودعيه: «لقد وضع العمامة فوق رأسى»، ويؤكد إسماعيل فهمى: «دعى عرفات، وأرسلنا إليه طائرة حربية تحمله إلى القاهرة، والغريب أن هذه المناسبة كانت هى التى اختارها السادات ليعلن عن استعداده للذهاب إلى القدس».
يكشف فهمى عن حالته حين استمع إلى السادات، قائلا: «اضطربت بشدة لأن السادات لم يعط أى إنذار مسبق بأنه قد يشير فى خطابه إلى احتمال الذهاب إلى القدس ولو بطريقة عرضية، غير أن أعضاء المجلس والشعب المصرى لم يتصوران أن كلمته يجب أن تفسر حرفيا، ولم يعن الهتاف الذى قابل به هذا الإعلان أن أعضاء المجلس وافقوا على فكرته، أو اعتقدوا أنه ينوى الذهاب فعلا، كل ما فى الأمر أنهم انفعلوا بقول الرئيس، وقليل جدا من الأفراد شك فى أن بيان الرئيس لم يكن إلا نوعا من البلاغة، وكان ياسر عرفات واحدا منهم، وكان الآخر الفريق الجمسى الذى همس فى أذنى قائلا: «أعادها مرة ثانية».
يوضح «فهمى» موقف «الجمسى»، قائلا، إنه فى 5 نوفمبر 1977 دعا السادات مجلس الأمن القومى المصرى لاجتماع ليعطيهم ملخص عن زيارته إلى رومانيا والسعودية وإيران، وابتدأ ببيان عام عن الزيارات وخص بالتفصيل محادثاته مع الرئيس الرومانى شاوشيسكو شارحا عرض وجهة نظر بيجين «رئيس الحكومة الإسرائيلية» حول كيان فلسطينى، وفى النهاية وبطريقة عرضية، قال: «إنى مستعد للذهاب إلى القدس وإلقاء خطاب فى الكنيست لوكان فى هذا إنقاذ لدم أبنائي»، يكشف فهمى: «تبع كلام السادات سكون تام ، ولم يسترسل فى فكرة الذهاب إلى القدس، ولعل ذلك يعود إلى عدم اتخاذه القرار النهائي، أو لأنه كالعادة لم يرد منحنا فرصة للتعليق أو المناقشة لما يقول، وتبدد هذا السكون بالفريق الجمسى الذى رفع يديه فجأة، وصرخ قائلا: «الكنيست كلا، الكنيست كلا، هذا غير ضرورى».
يعلق فهمى: «الجمسى عادة رجل نظام ولا يتدخل فى الحديث دون استئذان السادات، ولكنه هذه المرة كان مضطربا خوفا من أن يعنى السادات ما يقول، ومرة أخرى عاد السكون شديدا فى الاجتماع، ولم ينطق أحد بكلمة، واستمر السادات يناقش مسائل أخرى كأنه لم يسمع الجمسى على الإطلاق».
يكشف فهمى ما جرى بعد انتهاء السادات من خطابه فى مجلس الشعب، قائلا: «ذهب السادات وأعضاء الوزارة إلى ردهة الاستراحة بعد إلقاء الخطاب، ونادانى الرئيس أمام الجميع صارخا: «هذه زلة لسان، أرجو يا إسماعيل أن تمنعها الرقابة منعا باتا»، فأمرت فورا بحذف الجملة الخاصة برحلة القدس والكنيست من خطاب السادات، وبناء على ذلك لم يظهر فى صحف الحكومة فى اليوم التالى أى إشارة إليها، غير أن المراسلين الأجانب أبرزوا هذه الفقرة بالذات فى برقياتهم».
لكن «هيكل» يؤكد أن ممدوح سالم رئيس الوزراء ظن أيضا أن «ما ذكره السادات مبالغة حماسية»، فأصدر تعليمات الى مكتب الرقابة على الصحف بعدم إبراز هذه العبارة فى عناوين الصحف أو المقدمات التى توضع لخطاب الرئيس، لكن السادات كان متنبها، فلم ينم إلا بعد أن أطلع على الطبعات الأولى للصحف، وأصدر تعليماته غاضبا، بأنه على الصحف أن تبرز إبرازا كاملا ما يعتبره هو أهم جزء فى خطابه».