مصر.. وطن ينبض في القلوب وكتب على أرضه أقدم رسائل الإنسانية، على ضفاف نيلها تعلم الإنسان معنى الحياة والنظام، ومن أرضها انطلقت أولى دعوات التوحيد والسلام، حين آمن المصري القديم بأن العدل والانسجام هما سر بقاء الكون، وأن الاستقرار قيمة تُبنى عليها الحياة، والحديث عن مصر استحضار لتجربة إنسانية جعلت من السلام جزءًا من الهوية الوطنية، ومن التسامح أساسًا في بناء المجتمع، ومن الوعي بالقيم قاعدةً لحماية الدولة وتطويرها.
مصر وطن السلام، لأنها لم تكن يومًا أرض حرب إلا دفاعًا عن الحق، ولم ترفع سلاحًا إلا حمايةً للإنسان وكرامته، وعلى امتداد التاريخ، كانت مصر ملاذًا لكل باحث عن الأمان، وبيتًا لكل من ضاقت به السبل، فمنذ العصور الفرعونية وحتى اليوم، ظل السلام جوهر هويتها السياسية والأخلاقية، إذ آمنت أن القوة الحقيقية تترجم بقدرتها على صون الحياة، وعدد العقول التي تبني، والأيادي التي تمتدّ بالعطاء.
وتتجلى عبقرية التجربة المصرية في قدرتها على صناعة التوازن بين التاريخ الممتد والجغرافيا الحاكمة، وبين صلابة الدولة ورهافة الوجدان الشعبي، فمصر دولة كبرى يعد الاستقرار والاعتدال، والسلام بها قيم حضارية متجذرة في وعيها، ومنذ أن خط الإنسان المصري القديم عباراته الأولى على جدران المعابد، كان السلام أحد محاور رؤيته للكون والحياة، حيث ارتبط النظام بالعدالة والانسجام والتوازن، وقد عبر عن ذلك بمفهوم "ماعت" أي العدالة الكونية التي تحفظ توازن العالم، وأصبحت الأخلاق والسياسة والدين والفن مظاهر متكاملة لهذه الرؤية.
وهذه الفلسفة العريقة التي سكنت وجدان المصري القديم ما تزال تتردد في سلوك المصري المعاصر، الذي يرى في السلم شرطًا للاستقرار والتقدم، فالمصري بطبعه، ينزع إلى الاعتدال ونبذ التطرف، مؤمنًا بأن السلام وسيلة لحمايته عبر الأجيال، وتمثل هذه القدرة المصرية النادرة على الاحتفاظ بالسلام الداخلي رغم التحديات الخارجية أحد أسرار استمرار الدولة المصرية عبر آلاف السنين، فهي دولة تملك من الحكمة التاريخية ما يجعلها تفهم أن الاستقرار يصنع بالتوافق والرضا الجمعي والعدالة الاجتماعية، ومن ثم، يمكن القول إن مصر هي وطن للسلام ومعمل حضاري لصناعته وفلسفته، وفيها تبلورت فكرة أن السلام هو طريق الوعي والنضج الإنساني.
ومنذ أن استعادت مصر سيادتها الوطنية على كامل أراضيها، واجهت الدولة تحديات وجودية وسياسية، ولكنها اختارت طريق السلام خيارًا حضاريًا واعيًا، فقد أدركت مصر أن السلام يعني حضور الوعي، وعدالة التنمية، واستقلال القرار الوطني، ومن ثم، جاءت معاهدة السلام عام 1979 لتؤسس لرؤية جديدة تقوم على قوة الحوار واحترام السيادة وصون الكرامة الوطنية، وبالتالي تحول السلام في الفكر السياسي المصري إلى خيار استراتيجي، يوازن بين قوة الردع العسكرية وقوة البناء والتنمية، ويؤكد أن كرامة الدولة تصان بقدرتها على حماية شعبها من ويلات الصراع، وتوجيه طاقاته نحو النهضة والإعمار.
وقد أثبتت العقود اللاحقة صواب هذا الخيار التاريخي، حيث مكن السلام الدولة المصرية من استعادة مكانتها القيادية في محيطها العربي والأفريقي، وأعاد لها دورها كدولة مركزية راعية للتوازن الإقليمي، فكانت القاهرة ولا تزال صوت العقل والاتزان في أوقات تصاعد العنف، وفاعلاً رئيسيًا في الوساطة وتسوية النزاعات في ملفات مثل القضية الفلسطينية، والسودان، وليبيا، حيث حرصت على تقديم الحوار، والتهدئة، انسجامًا مع تاريخها وهويتها ووعيها الحضاري الراسخ.
وتمثل المشروع المصري في القرن الحادي والعشرين في تحقيق تنمية مستدامة تقوم على ترسيخ السلام الداخلي والخارجي، فالمشروعات القومية الكبرى، من العاصمة الإدارية الجديدة إلى تنمية محور قناة السويس، سواء مشروعات بنية تحتية أو توسعات عمرانية، تمثل إرادة حضارية تهدف إلى إعادة بناء الإنسان والمكان على أسس من الاستقرار والأمان والسلام الاجتماعي، ولدعم ذلك يعمل الخطاب الثقافي المصري المعاصر على ترسيخ قيم الانفتاح، والتجديد، في مواجهة ما يفرضه العصر الرقمي من ثقافة الإلغاء، والتطرف الفكري، والاستقطاب الوجداني، ولأهمية ذلك أدركت الدولة المصرية أن التقدم العلمي إن لم يدعم بمرجعية أخلاقية وإنسانية، تحافظ على الوعي والاتزان، فإنه قد يتحول إلى قوة مدمرة للذات والآخر.
وانطلاقًا من هذا الوعي، تبنت الدولة المصرية ومؤسساتها الفكرية والتعليمية والإعلامية مشروعًا متكاملًا لتربية الوعي الجمعي، يقوم على حماية الوجدان من التلاعب العاطفي والمعرفي الذي تمارسه المنصات والأجندات الرقمية، وضمان أن يبقى الإنسان مركز الفعل لا موضوعًا للتأثير والبرمجة الوجدانية، وبذلك يتحول السلام لثقافة راسخة تعيش في السلوك اليومي، وتنعكس في الرؤية التعليمية، وتظهر في الخطاب الثقافي والإعلامي، فيصبح السلام أسلوب وجود، لأنه مشروع بناء وتوعية؛ بناء الإنسان القادر على التفكير الحر، وعلى التمييز بين الحقيقة والزيف، وعلى إدراك ذاته ومجتمعه وتاريخه، بما يجعله قادرًا على الإسهام في مستقبل وطنه بوعي وإرادة وعطاء.
وتظل الدولة المصرية عبر تاريخها جسرًا أصيلًا للتواصل بين الحضارات، وحاضنةً لقيم الحوار والاعتدال والعيش المشترك في محيطها الإقليمي والدولي، فمصر، بما تحمله من رصيد حضاري قدمت نموذجًا للتفاعل الإنساني المبدع الذي يجمع بين الهوية والانفتاح، كما أسهمت في ترسيخ مفاهيم السلام الإقليمي والدولي، وكانت من أوائل الدول التي شاركت في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة دعمًا للاستقرار وصونًا لحق الشعوب في الأمن والحياة والكرامة، وقد شكل هذا الانخراط ترجمة عملية لفلسفة مصر السياسية القائمة على الحوار والتسوية قبل أي مواجهة.
كما احتضنت القاهرة على مدى العقود مؤتمرات الحوار بين الأديان والثقافات، إيمانًا منها بأن التنوع مصدر ثراء روحي وحضاري، وهكذا ترجمت الدبلوماسية المصرية البعد الأخلاقي للسياسة، فجمعت بين قوة الدولة واعتدال الرؤية، وبين صلابة القرار ومرونة التفاوض، وقدمت بذلك نموذجًا حضاريًا متفردًا لدولة لا تكتفي بحماية حدودها، وإنما تساهم في إعادة بناء التوازن الإنساني في المنطقة والعالم، من خلال تثبيت قيم السلم والتنمية، ودعم الحوار كأداة لحل الأزمات، وتعزيز روح المسؤولية المشتركة بين الشعوب.
ونؤكد أن مصر وطن السلام تمثل معادلة حضارية مكتملة الأركان، تختزل مسيرة شعب اختار عبر تاريخه الطويل أن يحيا بالسلام ولأجل السلام بوعي تاريخي متجذر في الشخصية المصرية، يقوم على إدراك قيمة الحياة، واحترام الإنسان، والقدرة على بناء الاستقرار كشرط للتقدم، وفي عالم تتنازعه الحروب الرقمية، وصراعات الأفكار، وأنماط الاستهلاك المحموم، تبقى مصر بما تحمله من رصيد حضاري وروحي قادرة على أن تذكر الإنسانية بأن السلام ذروة القوة الأخلاقية، وأن السلم أعلى درجات القدرة على التوازن وضبط الإرادة.
وستظل مصر وطنًا للسلام تمنح العالم درسًا خالدًا أن من يصنع السلام يصنع الحضارة ذاتها، وسلام على مصر، أرض الكنانة، ومهد الحضارة، وسلام على نيلها الذي لا يعرف إلا العطاء، وعلى شعبها الذي ينهض بالأمل رغم كل التحديات، ففي مصر لا يموت الحلم ونحيا بالأمل؛ لأنها كانت وستبقى وطن السلام، وطن الحياة.
__
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر