كانت الساعة الواحدة والربع تقريبا بعد ظهر يوم 6 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1944، حين وقفت سيارة اللورد «والتر موين» وزير المستعمرات البريطانية، أمام منزله بشارع الجبلاية بحى الزمالك، وبينما كان سائقه «فولر» يتجه نحو باب السيارة ليفتح له الباب سمع صوتا يقول: «لا تتحرك»، ثم انطلقت الرصاصات فى صدره، وفى ثوان أطلق شخص آخر الرصاص على «موين»، ومات «فولر» فى الحال، ثم نقل «موين» إلى المستشفى ومات فيها فى الساعة الثامنة وأربعين دقيقة مساء، حسبما يذكر الدكتور محمود متولى فى كتابه «مصر وقضايا الاغتيالات السياسية».
أسرع القاتلان بالفرار هربا، وطاردتهما الشرطة، وتمكن شرطى كونستبل فى حرس الوزارات اسمه محمد عبدالله، من قطع الطريق عليهما بموتوسيكله دون خوف من الأعيرة النارية التى أطلقها الإرهابيان، وتم القبض عليهما، لتظهر حقيقة الجريمة التى هزت القاهرة ولندن، ويذكر «متولى»، أن النبأ ما كاد يصل إلى قصر عابدين حتى أبدى الملك فاروق الذى كان يتناول الغداء اهتماما زائدا وسأل بنفسه بالتليفون، وأوفد رئيس ديوانه أحمد حسنين باشا للاستفسار عن صحة اللورد، ثم توجه بنفسه إلى المستشفى الذى يرقد فيه اللورد، وفى منتصف الساعة الثالثة بعد ظهر 6 نوفمبر توجه رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا إلى قسم البوليس ليطلع بنفسه على تفاصيل الحادث.
كان الحدث جريمة ارتكبتها عصابة صهيونية ضد مسؤول بريطانى رفيع وصديق مقرب من رئيس الحكومة البريطانية «تشرشل»، وفقا للكاتبة البريطانية «ارتيميس كوبر» فى كتابها «القاهرة فى الحرب العالمية الثانية»، ترجمة، محمد الخولى، وتكشف أن هذه الجريمة لم تكن وليدة اللحظة وإنما تعود إلى سنوات مضت.
تكشف «كوبر» أن خيط الجريمة بدأ من عام 1940 حين وافق «تشرشل» على إنشاء جيش يهودى قوامه عشرة آلاف جندى، يؤخذون من صفوف الجيشين البولندى والتشيكى، وتتولى بريطانيا تمويلهم، لكن تعطلت الفكرة لمعارضة الإدارة البريطانية فى فلسطين، فكلف تشرشل صديقه المقرب «موين» بإبلاغ الزعيمين الصهيونيين «حاييم وايزمان» و«بن جوريون» بعدم إمكانية تنفيذ «الجيش اليهودى» حاليا «فبراير 1941»، ومعاودة النظر فيه فى غضون ستة أشهر، وبعد الستة شهور أبلغهما الرفض أيضا، وبذلك أصبح «موين» فى نظر «الصهاينة» عدوا لهم، ولم يغيروا رأيهم فيه بعد مجيئه إلى القاهرة وأصبح له فيها مكتب «وزير الدولة البريطانى».
خطط للجريمة ونفذها مجموعة تسمى «المحاربون من أجل حرية إسرائيل» أو «عصابة شتيرن» حسب التسمية البريطانية وكان يتزعمها إسحق شامير الذى أصبح فيما بعد رئيسا للحكومة الإسرائيلية من عام 1986 إلى 1992، وتذكر «ارتيميس كوبر» أن «عصابة شتيرن» كان لها خلية بالقاهرة من ثمانية رجال وأربع نساء، لكن لم تكن ارتكبت أى أنشطة تخريبية تتجاوز طبع بضعة منشورات والبحث عن الأسلحة، وعليه كان يتعين إرسال القتلة من فلسطين إلى مصر.
يذكر «متولى» أن العصابة أوفدت أحد أعضائها وهو «الياهو حكيم» وكان عمره 20 عاما إلى القاهرة فى فبراير 1944 لقتل «موين»، وسهلت له وسائل للتسلل إلى مصر من فلسطين المحتلة مرتديا ملابس عسكرية للجيش البريطانى بزعم زيارة والديه اللذين كانا يقضيان الشتاء فى حلوان، ومكث ثلاثة أيام فى القاهرة يدرس مسالكها، وعرف شخص اللورد موين ومكان عمله وإقامته، ثم غادر القاهرة وعاد إليها من جديد فى 23 أغسطس 1944، وكانت التعليمات له بألا ينفذ جريمته، وعليه الانتظار لقدوم زميل له، وبالفعل أرسلت العصابة «الياهو بتزوى» 23 عاما، يوم 20 أكتوبر 1944، والتقيا فى الزمان والمكان اللذين حددتهما الجماعة لهما بالقاهرة، وكان فى نقطة معينة بأحد شوارع القاهرة تحت ساعة محل سنجر الرئيسى.
نفذ المتهمان جريمتهما، وتؤكد «ارتيميس كوبر» أن تشرشل أصيب بحزن كبير حين تلقى الخبر، وغضب إلى درجة أنه لم يجرؤ أحد لأسابيع أن يفتح أمامه موضوع فلسطين، وفى مجلس العموم دوى صوته قائلا: «إذا ما كان لأحلامنا من أجل الصهيونية أن تنتهى وسط دخان ينبعث من فوهة مسدس يصوبه قاتل، وإذا ما كانت جهودنا الحثيثة من أجل مستقبلها ستفضى إلى طغمة جديدة من العصابات التى لا تليق إلا بألمانيا النازية، فحينئذ سوف يتعين على الكثيرين من أمثالى أن يعيدوا النظر فى الموقف الذى ما برحوا يتمسكون به بكل إصرار فى الحاضر وفى الماضى».
يذكر الدكتور محمود متولى، أنه تم تنظيم جنازة رسمية للقتيلين فى القاهرة، أما المتهمين «الياهو حكيم» و«الياهو بتزوى» فقضت المحكمة فى جلستها يوم 22 يناير 1945 بإعدامهما، ونفذ الحكم يوم 22 مارس 1945، ودفنت جثتاهما بمقبرة خاصة بمنطقة «هليوبوليس»، وعليهما حراسة خاصة، وفى عام 1975 أفرجت الحكومة المصرية عن رفاتهما مقابل عشرين عربيا كانوا فى سجون إسرائيل بتهمة التجسس لصالح مصر، وفى القدس أقيمت جنازات لهما حضرها الآلاف يتقدمهم «إسحاق رابين» رئيس الوزراء.