بشكل تلقائى يجدد المتحف المصرى الكبير، أسئلة الهوية، ويكنس الكثير من الخرافات والأكاذيب التى أحاطت بهذه الأسئلة، بجانب أنها بالفعل تفرض نوعا من النقاش، لم يكن مطروحا على مدى عقود، ليس لأنه غير مشروع ولكن لأنه يصطدم لدى البعض بما يرون أنه ثوابت أو أفكار تحمل معانى سياسية، وبالفعل يقع دعاة القومية فى هذا المأزق، لأنهم يعترفون بهوية مصرية واضحة، لكنهم يخشون الاعتراف بهذه الهوية خوفا من الاصطدام بمجموعة من الأفكار سادت منذ الأربعينيات من القرن العشرين وربما قبلها، على يد دعاة القومية العربية، مصر بالطبع لها رافد عربى كبير فى هويتها، ربما تمثله اللغة العربية، ومع هذا فحتى اللغة العربية بلهجتها المصرية سادت على باقى اللهجات، مع الأخذ فى الاعتبار أن اللهجة المصرية من اللغة العربية تتضمن آلاف المفردات المصرية الأصل.
وعندما نتحدث عن طقوس اجتماعية مصرية تتعلق ربما يسمى الإيمان المصرى، فهنا نشير إلى احتفالات مصرية بالأعياد المرتبطة بأولياء افتراضيين، موالد أو طقوس وحتى احتفالات بأعياد مصرية قديمة مثل شم النسيم، الذى يعتبر عيدا مصريا وليس فقط مسيحيا، بالرغم من ارتباطه بأعياد مسيحية قبطية مصرية، لكنها غالبا ما ترتبط باستخدام «الخوص» وجريد النخيل ومياه النيل والغطاس، وغيرها، بجانب ما أثرناه من قبل عن موالد يحتفل بها المصريون ترتبط وتمتد إلى آلاف السنين قبل ظهور الأديان السماوية.
ونشير إلى أن ارتباط المصريين بالأولياء يرجعه البعض إلى الفاطميين، وهى مرحلة مهمة من تاريخ مصر تؤكد كيف تحضرت المعتقدات واتخذت شكلا ومضمونا مختلفا، فالمصريون لم يتشيعوا لكنهم تمسكوا بحب آل البيت، وأيضا جمعوا فى موالدهم مظاهر احتفالات مصرية قديمة ومسيحية وشيعية، وبالرغم من حرب الأيوبيين للفاطميين، فقد احتفظ المصريون بمساحات من الاعتقاد، تتجاوز كل شىء وتصب فى خانة الإيمان المصرى، والموالد احتفالات مصرية يحتفى بها المصريون بآل البيت، وبمن يرون أنهم أولياء الله الصالحون، السيد البدوى فى طنطا، «الحسين والسيدة زينب»، وأبو العباس والقناوى ومولد «العذراء» فى أسيوط، ودميانة وغيرها من الموالد، وهى احتفالات تعقد من مئات السنين، ويؤمها مواطنون من كل العقائد والمذاهب، من يؤمن بالكرامات والأولياء، ومن لا يؤمن ويذهب ليحتقل مع الآخرين، حيث تقدم النذور والطعام، وحلقات الذكر، ويغنى الصيِّيت أو المبتهل فى سرادق أو فى الهواء أمام مئات الآلاف، والموالد هى احتفالات لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبشر على الفطرة مثل بعض من نراهم ونجاورهم فى الحج والعمرة وليس لديهم ما يقولونه سوى الدعاء والنظر للسماء، إيمان عميق وتسليم ويقين، يتفوق على الكثير من المظاهر الكاذبة التى تخفى أحيانا وحوشا وفاسدين ومتربحين وتجار دين، وهنا نحن أمام مظاهر فشلت حملات مدفوعة من دجالين من دول فى إنهائها، بجانب أن تجار العقائد انكشفوا خلال سنوات وقدموا نماذج سيئة لانتهازيين ومبتدعين يخالفون الإيمان بنصوص موضوعة وأحاديث مشكوك فيها، ومنها ما يتردد حول المصريين القدماء من أكاذيب ليس لها أصل أو فصل فى التاريخ ولا فى الأديان التى هى نصوص بلا تاريخ ولا زمن ولا مكان.
ومثل كل المظاهر التى تنفرد بها مصر، يأتى المتحف الكبير، الذى يعرض حضارة آلاف السنين، بل ويمثل مكانا ومجالا للكشف عن حلقات مفقودة، فى سلاسل انتقال الحضارات، والحديث عن هوية مصرية، لا يحمل أى نوع من الشوفينية، بل هو حوار مستمر مع العالم، ومجال للسلام والحوار والعلم، مثلما يقول ملوك وملكات العالم ممن حضروا الافتتاح، أو تعاملوا بانبهار من القيم والمبادئ التى يقدمها المصريون وتحملها جدرانهم، وتكشف عن حضارة هى نتاج تفاعل على مدى قرون وامتزاج، مع كل العناصر المحيطة أو الغازية، ينتهى بأن تصهر الحضارة المصرية ما عداها وتحولها إلى عنصر إنسانى مصرى يجمع أجمل وأعمق ما فى البشر وإيمانهم وصدقهم، وهو ما يفرض على كل مصرى الشعور بالتميز والفخر، والرغبة فى أن يستعيد هذا المجد بالعلم والعمل والعدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص.
