كان الناقد وأستاذ الأدب العربى بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، الدكتور الطاهر أحمد مكى، يدرس التاريخ العام فى معهد الدراسات العربية بالقاهرة بعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952، وكان المؤرخ محمد شفيق غربال يقوم بالتدريس فيه، وأثناء ذلك، شن سيد قطب حملة صحفية فى مجلة روزاليوسف على قادة وزارة المعارف «التعليم»، يتهمهم بأنهم «كانوا يدورون عمليا فى فلك الغرب، وزيفوا التاريخ مجاملة للعائلة المالكة».
وحسب «مكى»: «كان الهجوم يحمل إشارة صريحة إلى غربال»، ويضيف فى مقاله «سيد قطب وثلاث رسائل لم تنشر» بمجلة «الهلال- أكتوبر 1986»، أنه أمام هجوم «قطب» الضارى، اضطر «غربال» للدفاع عن نفسه فى محاضرة بالمعهد، فقال: «آسف لأنه غير وفى وناكر للجميل، توسمت فيه أنا وإسماعيل القبانى- المستشار الفنى لوزارة المعارف- الخير والنفع، فوفرنا له بعثة غير عادية، ليتصل بالحضارة الغربية، وتقع عينيه على ما فى العالم الجديد، فيعمق فكره وتتسع نظرته، فلم يكمل البعثة، وها هو الآن يشتمنا».
وصل «قطب» أمريكا يوم 3 نوفمبر- مثل هذا اليوم- 1948، لدراسة «التربية وأصول وضع المناهج»، وإذا كانت هذه البعثة «حدثا استثنائيا فى حياة قطب»، حسبما يرى «شريف يونس» فى كتابه «سيد قطب والأصولية الإسلامية»، فإنها تحولت لاستفهامات لدى الجميع، ووفقا لـ«مكى»، فإن أول ما يلفت النظر فيها أنها جاءت فجائية وشخصية، فلم يعلن عنها مسبقا، ليتقدم لها من يرى نفسه كفئا، وسيد قطب كان حينها قد تجاوز بكثير السن التى تشترطها إدارة البعثات، وعند تخصيصها له انتقل مراقبا مساعدا بمكتب الوزير، ويتساءل: «من الذى أوحى أو فكر فيها؟ أو دفعه إليها، وماذا كانت الغاية المحقة من ورائها بعيدا عن الظاهر غير المقنع؟».
تأتى أهمية هذه الأسئلة فى أنها تحاول فك ألغاز التحولات فى حياة هذا الرجل، الذى يعد أبرز منظرى ومؤسسى الفكر الإرهابى والتكفيرى فى منطقتنا، وسالت دماء الأبرياء بسببه، ويرى الكاتب والباحث حلمى النمنم فى كتابه «بعثة سيد قطب- الوثائق الرسمية»، أنه على حسب رؤية وأيديولوجية كل تيار ومفكر، حاول مثقفون إيجاد التفسير، فمحمد قطب شقيقه الأصغر قدم تفسيرا غريبا ودعائيا، ولا يستند على حقائق، حيث يرى أن الملك فاروق أصدر أمرا ملكيا باعتقال «سيد» بعد مقالات نارية، هاجم فيها الملك والحاشية، إلا أن الملك حاول إصلاح هذا الخطأ، بعد أن أصدر الأمر، ومن هنا جاءت فكرة البعثة اللغز.
أما الدكتور الطاهر مكى فيرى أن هذه البعثة كانت «وليد تخطيط أمريكى خفى بعيدا عن سيد قطب بداهة ولم يعرفه أكيد»، ويرى أحمد عباس صالح فى مجلة الكاتب- سبتمبر 1965»: «سيد قطب لفت أنظار الاستعمار منذ وقت مبكر بكتاباته المناوئة للاشتراكية، بدعوى أن الإسلام والاشتراكية متناقضان، فدعى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأمضى أكثر من عام، عاد بعده لينشر كتابا مليئا بالمغالطات ضد العدل الاجتماعى، والفكرة الاشتراكية تحت ستار الدعوة الإسلامية».
يكشف «النمنم» أن هذه المنحة كانت لثلاثة سافروا وهم، سيد قطب، والدكتور عباس عمار الأستاذ المساعد بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول، ومحمد عبدالسلام مدير قسم التوجيه التعليمى والمهنى بالوزارة، وذلك بعد مذكرة مرفوعة من إسماعيل القبانى إلى وزير المعارف، الدكتور عبدالرازق السنهورى، للموافقة على البعثة، التى تهدف إعادة تنظيم المراقبة العامة للبحوث الفنية والمشروعات بالوزارة، وإعداد متخصصين فى البحث الفنى بمسائل التعليم.
يتتبع «النمنم» خطوات السفر، مؤكدا أن هناك عقبات صادفتها، حيث تبين ضعف نظر «قطب» مع وجود «تراكوما بالعين»، وهو مرض يحرمه من السفر، وقررته اللجنة الطبية فى 11 أكتوبر 1947، لكن القبانى والوزير استجابا لرجائه بإعفائه من شرط النجاح فى النظر، وتيسير السفر فى موعد مناسب قبل حلول الصيف، وتم أخذ موافقة لجنة البعثات بالتمرير على إعفائه من شرط القبول الطبى، ووحده «حامد بك العبد» ممثل وزارة الشؤون الاجتماعية الذى رفض، وسجل رفضه مكتوبا.
سافر «قطب» فى سبتمبر 1948 بالباخرة، ووصل أمريكا يوم 3 نوفمبر، ويذكر «النمنم» أن البعثة كانت مدتها 15 شهرا زادت إلى 17 شهرا، وعاد بالباخرة نظرا لحالته الصحية التى كانت تمنعه من ركوب الطائرات، بل تفرض عليه أن يستريح عدة أيام فى المدينة التى يمر بها، وهو ما حدث، واستجاب رئيس البعثة لطلبه هذا، بعد اتصال تليفونى مع وزير المعارف، الدكتور طه حسين، الذى وافق بل طلب أن يزور المراكز التربوية فى كل عاصمة يمر بها، ومنها لندن وباريس وروما وجنيف، ليزداد خبرة ومعرفة، وطلب هو زيادة بدل السفر، المقررة له عن كل ليلة بهذه العواصم.
اشترطت البعثة أن يلتزم بخدمة الوزارة أو الجامعة، التابع لها مدة 7 سنوات من عودته، وإذا تركها أو فصل لأسباب تأديبية أو أخل بالمتفق عليه، يرد جميع ما أنفقته الحكومة عليه فى البعثة، وفى 18 أكتوبر 1952، استقال من الوزارة، وانقطع عن العمل، ولم يرد شيئا بل أعفاه مجلس الوزراء من التسديد.
