تغيب كثيراً، ثم تطل فجأة وكأنها القمر المنير فى السماء، بضوئه الساحر وصفائه الرقراق، تعيدنا إلى أجمل الذكريات، إلى زمن الكبار، زمن الرومانسية والبراءة، وكيف لا؟، وهى الصوت الدافئ العذب الذى جسدت لنا نبراته كل معانى الحب وأهدانا أجنحة نحلق معها فى سماء الجمال والإبداع، فكان ولا يزال يمنحنا هدنة وينقلنا إلى الجنة بعيداً عن الصخب والضوضاء.
إنها القيثارة الجميلة نجاة الصغيرة، التى طلت علينا قبل ساعات كالبدر فى زيارة للعاصمة الجديدة، زارت خلالها دار الأوبرا بمدينة الثقافة والفنون، ومقر الهيئة الوطنية للإعلام، وكان فى استقبالها المهندس خالد عباس رئيس شركة العاصمة، والكاتب الصحفى أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، واللواء دكتور أسامة عبد العزيز مدير مدينة الثقافة والفنون، وظهرت صور الجميلة نجاة لتنشر الفرح والحنين فى قلوب الملايين من جمهورها المشتاق، الذى يفرح بكل طلة تطل فيها النجمة الكبيرة بعد غياب طويل.
تفرض الفنانة الكبيرة نجاة على نفسها سياجاً من العزلة والهدوء الذى يتناسب مع طبيعتها وشخصيتها، وهو ما أكده الموزع والملحن يحيى الموجى فى تصريحات سابقة لـ اليوم السابع، حيث إنه أحد المقربين من الفنانة الكبيرة وتعاون معها فى آخر أعمالها أغنية كل الكلام التى غنتها عام 2017 ، كلمات الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودى، فضلا عن أن هذه العلاقة بدأت منذ سنوات حين تعاون والده الموسيقار الكبير محمد الموجى مع نجاة فى عدد من أشهر أغانيها، مشيراً إلى أنه تقريبا الوحيد الذى يتواصل معها من الوسط الفنى، لثقتها الكبيرة فيه.
وقال يحيى الموجى إن الفنانة الكبيرة نجاة ما زالت تحتفظ بجمال صوتها كما هو، ولكنها لا تحب الظهور كثيراً حتى تحتفظ بصورتها القديمة فى أذهان الجمهور، لذلك فضلت ألا تظهر فى تصوير أغنية كل الكلام، التى تم تصويرها اعتماداً على صور قديمة لها من الكليبات والأفلام.
وأوضح الموجى أن نجاة الصغيرة تقضى أوقاتها فى متابعة الفضائيات وكل الأحداث وتصلى وتقرأ القرآن، مؤكدا أنها تتابع الأغانى الجديدة والمطربين الشباب، قائلا: بيعجبها صوت أنغام وشيرين وآمال ماهر، وذكاء عمرو دياب وطريقته فى إدارة موهبته، وتقول عنه بيعرف يختار أغانيه ويطور نفسه ودائما تقارنه بمن حوله وتقول أذكى أبناء جيله لأنه لا يظهر كثيرا فى اللقاءات.
وأشار يحيى الموجى إلى أن الفنانة الكبيرة نجاة تتسم بالهدوء الشديد والخجل وتحتفظ بجمال ابتسامتها رغم تقدمها فى العمر.
ولدت نجاة الصغيرة فى 11 أغسطس من عام 1938، ليهدينا الزمان أجمل هدية ويمتعنا بأعذب صوت وأجمل أغانى على مدار تاريخها الفنى الطويل ، ومنها: عيون القلب، أيظن، لا تكذبى، أنا بعشق البحر، أنا باستناك، وغيرها عشرات الأغانى التى مثلت حالة خاصة فى عالم الغناء والطرب.
عاشت نجاة الصغيرة حياة مختلفة عن باقى الأطفال، وهو ما أكدته فى مذكراتها التى نشرتها مجلة الكواكب عام 1957، فهى الابنة السادسة من بين ثمانية أبناء للخطاط المشهور محمد محمود كمال حسنى البابا، والذين تميزوا بمواهب فنية متعددة، مثل الرسم والنحت والغناء والعزف على بعض الآلات الموسيقية، فشقيقها عزالدين كان عازفا على آلتى الكمان والعود وملحنا معروفا، وبرع شقيقها فاروق فى العزف على القانون، وشقيقتها السندريلا سعاد حسنى.
وقالت نجاة عن طفولتها فى مذكراتها: كنت طفلة عادية فى أسرة عديدة الأطفال لا يميزنى عن أشقائى الأربعة ولا شقيقاتى الثلاث شيء، اللهم إلا اعتقاد أبى بأننى فأل حسن، إذ تصادف يوم مولدى أن تلقى أبى رسالة هامة تتعلق بمشروع ضخم كان يعلق عليه الكثير من الآمال، ولأمر ما كان أبى لا يسمح لنا نحن البنات بالذهاب إلى المدارس، ويستقدم لنا معلمة هى الست سكينة التى كانت تأتى إلى بيتنا كل يوم لتعليمنا القراءة والكتابة، وبعض الحساب والقصص الدينية، لأن أبى على ما يبدو كان يريد إعدادنا لنصبح زوجات صالحات فى بيوت أولاد الحلال، عندما يدفع بهم الحظ إلى أبوابنا.
وتابعت: كان أبى وأشقائى الكبار يؤكدون أننى كنت طفلة هادئة هدوءا غير عادى، صامتة لا آتى ما يأتيه الأطفال عادة فى سنواتهم الأولى من صراخ وضجيج، ولم أكن قد تجاوزت الثالثة عندما انفصل أبى عن أمى بالطلاق فى هدوء وبلا ضجة، انفصلا وهما على تفاهم تام، وعشت مع أبى وإخوتى.
لم تلتحق نجاة الصغيرة مثل باقى شقيقاتها ومنهن شقيقتها الأصغر السندريلا سعاد حسنى بالمدرسة، ورغم هدوئها وصمتها الدائم كانت طفلة ذكية مميزة وقالت عن ذلك: فى الخامسة أصبحت مثار فخر كبير للست سكينة وكانت تباهى بشطارتى وذكائى، وكانت دائما تكافئنى بقطع الشيكولاتة.
وبدأت نجاة الصغيرة مشوارها الفنى فى سن الخامسة حيث كانت تحفظ أغانى أم كلثوم وتقلدها و تقوم بإحياء الحفلات حتى بدأت تغنى أغانيها الخاصة وتصبح لونا خاصا فى الغناء لا يشبه أحداً، وعرفت باسم نجاة الصغيرة، للتمييز بينها وبين المطربة نجاة على.
اهتمت الأسرة بتدريب الطفلة نجاة على أصول الغناء والعزف على العود، وكان شقيقها عزالدين العازف بفرقة أم كلثوم يصطحبها لحفلات كوكب الشرق الشهرية، كما اصطحبها إلى حفلات معهد الموسيقى الملكى، واستمع لصوتها كبار الموسيقيين بالمعهد وانبهروا بقدرتها على أداء أغنيات أم كلثوم قبل أن تتجاوز السادسة من عمرها، خاصة عندما غنت أغنية: غلبت أصالح فى روحى.
وطبقا للكاتب الصحفى والمؤرخ سعيد الشحات فى زاويته اليومية "ذات يوم" فإن نجاة كشفت عن تفاصيل الصدفة التى جعلتها تغنى فى حفل وهى طفلة، فأشارت فى حوار لمجلة «الكواكب» عدد 797 فى 8 نوفمبر، عام 1966، أنه فى سنة 1944 كانت هناك حفلة على مسرح الأزبكية، وكانت مع أطفال بابا شارو لتلقى معهم نشيدا، وكانت أم كلثوم ستشارك بالغناء لكنها تأخرت، فدخلت نجاة لتغنى حتى تصل كوكب الشرق، وغنت «حبيبى يسعد أوقاته»، وبعد أول مطلع اهتزت الصالة بالتصفيق، وعندما وصلت أم كلثوم وقفت تستمع إليها خلف الستار فى الكواليس، وقالت نجاة: بعد انتهائى من الغناء حضنتنى وباستنى وهى تتمتم بسعادة ودهشة وتقول لى: «كل ده وانتى قد كده، آه يا عفريتة».
و احترفت الطفلة نجاة الغناء فى هذه السن المبكرة ، وأحيت العديد من الحفلات فى القاهرة والاسكندرية، وفى إحدى الحفلات غنت قصيدة أم كلثوم «سلوا قلبى»، وسمعها الموسيقار محمد عبدالوهاب، والكاتب الشهير فكرى أباظة، الذى كتب مقالا بمجلة المصور، فى 23 أغسطس 1946، يشيد فيه بصوت الطفلة ولكن نجاة غضبت من هذا المقال، كما كشفت فى مذكراتها، بالرغم من إعجاب فكرى أباظة بها، مفسرة ذلك بقولها: «طالب الحكومة بأن تتبنانى وترسل بى على نفقتها فى بعثة أدرس فيها أصول الغناء والموسيقى، وأبدى شفقته على من السهر ومن استغلال أبى لى ابتغاء المكسب المادى»، وتؤكد أن والدها غضب من نقد فكرى أباظة له، وغضبت هى أيضا وأثار هذا المقال ضجة فى الصحف كلها، وتؤكد نجاة: «اندفع الكتاب يعقبون عليه، وكان إخوانى جميعا فرحين بهذا الجدل الذى أثرته».
ظلت نجاة الصغيرة تغنى تحت عباءة أم كلثوم حتى عام 1957 – طبقا للكاتب الصحفى سعيد الشحات - ففى هذا العام بدأت مرحلة جديدة من مشوارها الفنى حيث قدمت أغنيتها «أسهر وانشغل أنا»، وكانت هذه الأغنية هى ميلادها الفنى الحقيقى، وبعدها أصبحت لها شخصيتها الغنائية وأغانيها الخاصة و قدمت قصائد «أيظن ، ماذا أقول له، متى ستعرف كم أهواك ، لا تكذبى، وغيرها حتى أطلق عليها لقب "سيدة القصائد العربية"، وقدمت مجموعة من أروع الأغانى الرومانسية ومنها «ساكن قصادى، والشوق والحب، وشكل تانى، وأنا باستناك، وغيرها، وشاركت فى عدد من الأفلام السينمائية، وتعاونت مع كبار الشعراء والملحنين ، نزار قبانى، وكامل الشناوى ومأمون الشناوى، وعبدالرحمن الأبنودى، ومرسى جميل عزيز، ومن الملحنين موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، ومحمد الموجى، وكمال الطويل، ومحمود الشريف، وبليغ حمدى ، وسيد مكاوى، واستمر عطاء القيثارة الفنى حتى عام 2002، وبعدها اعتزلت لفترة، حتى عادت عام 2017 بأغنية "كل الكلام"، ومنذ ذلك الحين يتلهف الجمهور لرؤية القيثارة الجميلة نجاة التى تطل بين حين وأخر لتحيى مشاعر الحنين والرومانسية والشوق للفن والزمن الجميل، وينتظرها الجمهور وكأنه يناديها بأجمل أغانيها مردداً: " مستغناش عنك بالدنيا، وأنا باستناك".