كان لبنان مُلحقًا على الحرب فى غزة حتى سنة مضت. اليوم يُكمل اتفاق وقف الأعمال العدائية عامه الأول، وغدا تحلّ ذكرى توقيعه فى 27 نوفمبر 2024، ولم يتغيّر شىء تقريبًا.
اختلفت وتيرة الهجمات، وفى الحجم والنوع؛ لكنها لم تتوقف لحظة واحدة. قوات اليونيفيل الدولية رصدت ما يزيد على 10 آلاف خرق من جانب إسرائيل، والحزب بين رخاوة فى الميدان وصلابة فى الدعايات، وليس فى مقدور العهد الجديد للرئيس جوزيف عون وحكومة نوّاف سلام، افتكاك الدولة من قبضة الدويلة عمليًّا، ولا من مرمى نيران الاحتلال أيضًا.
ردّدت الصحافة اللبنانية أن وزير الخارجية بدر عبدالعاطى يحل ضيفًا على بيروت، الثلاثاء. وكان قد سبقه إليها مدير جهاز المخابرات العامة، اللواء حسن رشاد، أواخر أكتوبر الماضى. وبعيدا عن الزيارة غير المؤكّدة رسميا من القاهرة، فالاتصالات لا تنقطع.
وفيما يتحدث الإعلام هناك عن مُبادرة مصرية؛ فالأقرب أنها جهود مُتّصلة على خطّ اللجنة الخماسية، تتشابك مع الحركية الدؤوب لبقية العواصم الشريكة، وتتأسس على فاعلية القاهرة البادية فى الاتفاق بين تل أبيب وحركة حماس، وفى مخرجات قمة شرم الشيخ للسلام قبل ستة أسابيع تقريبا.
تلاقت الساحات فجأة، وتفرّقت بالكيفية نفسها. ولا يُمكن الجزم بما إذا كان «الطوفان» إشارة مقصودة لحرب شاملة؛ أم مُبادرة فردية من يحيى السنوار، تقصّد بها إحراج الرعاة والحلفاء، واستدراجهم إلى مواجهة لم يُحدّدوا موعدها ولا شروطها.
على أن الارتباك الذى أصاب رأس المُمانعة لا يخلو من ملامح الصدمة والاندهاش، فيما الإيعاز للذراع اللبنانية بالانخراط سريعا فى جبهة القتال يُعبّر عن خُطط مُعَدّة سلفًا. وبين الافتراضين؛ كأن قادة حماس استنزفوا طاقة المُبادأة، وما تركوا لشركائهم فى المحور خيارًا؛ إلا أن يقفزوا فى حلقة النار، أو ينتظروا لحين أن تتوسّع وتصيبهم بشررها.
دُفِع حسن نصر الله إلى الصفوف الأولى، فيما تلكّأت طهران؛ وتطابقت المآلات. وما كان للأول أن يقرع الطبول ويرتدى ملابس الحرب، من دون توجيه أو إقرار. وما نأت الثانية بنفسها؛ إلا عن تضحيةٍ بالأطراف أو زُهدٍ فيها، لصالح المركز.
وبينما كانت تُبدّل الأوراق على الطاولة بالإيحاء من بعيد، مُجتهدة فى إخفاء يديها وراء ظهرها؛ كان نتنياهو يصل الخيوط ببعضها، ويُرتّب الساحات فى مصفوفة واحدة، وما تقدّمت محطة فيها على غيرها؛ إلا عن تصوّر استباقى مُحكم، وعملية استهداف مُمنهجة بقصديّة لا ارتجال فيها ولا اعتباط.
تحوّلت عملية اصطياد الصهاينة، إلى فخٍّ داسه المُمانعون. ولم تكن الحكومة المأزومة والمُحاصرة داخليا فى حاجة لأكثر من ثغرة فى الجدار.
تفجّر الصاعق فى غزّة؛ فتردد صداه فى الضاحية بعد ساعات، وكان الجسر الذى عبر عليه ائتلاف الليكود إلى ما وراء النهر والبحر، وصولاً لتسييل جغرافيا مُحيطها الواسع، والسباحة فيما كان يتعذّر السير إليه، أو مُجرّد الحُلم به، قبل وقت قصير.
ابتدع الأمين العام من مخبئه العميق عنوان «الإسناد والمشاغلة»؛ قبل أن يلقى حتفه فى المكمن نفسه من دون تحقيق أى منهما.
ولكنه فتح، عن غير قصد، طريق الأعداء إلى الجنوب بعد ربع القرن من تحرُّره، وإلى الشام بعد عقدٍ كامل من الحضور الإيرانى المُزعج، ومنهما إلى التسكُّع فى سماء فارس، والمساس بمَنعة الجمهورية الإسلامية ووقارها فى عُقر دارها، وبقدر عظيم من الاستسهال الذى ربما لم يمُر على خاطر الدولة العبرية فى أشد أحلامها تجرّؤا وانفلاتا.
جرى تشغيل ماكينة الحزب على التخوم، واستُبعِدَت الساحة السورية من أية مشاركة. وعندما تعاظمت الحاجة إلى لاعب إضافى؛ استُقرّ على أن يُنصَّب الحوثيون فى مركز المهاجم الصريح، من منطقة تمركزهم البعيدة فى عُمق الدفاع.
وباستثناء بعض المناوشات العابرة؛ فقد ظلت الفصائل الولائية فى العراق خارج حسابات القوّة والتبديل بين اللاعبين، تجنُّبًا لمغبّة استنفار الأمريكيين، أو استدعاء اليد الإسرائيلية الطولى إلى حواشى الهضبة الإيرانية، وكلاهما أطبق عليها لاحقًا بأكثر مِمّا كانت تخشاه.
رهن الجميع مواقفهم بالمأساة الدائرة فى غزّة. وكان الفارق شهرًا أو يزيد قليلاً بين مبادرة نصر الله والتحاق عبد الملك الحوثى. إنما المُفارقة أن الحزب انسحب من المواجهة بعد سنةٍ تقريبًا، وبقيت الميليشيا اليمنية فيها قرابة السنتين، وعندما توقّفت الحرب فى غزّة انطفأ خط النار المتأجج من صعدة إلى تل أبيب، والعكس، وما تزال الحرائق تنفُث لهبًا ودُخانًا وراء نهر الليطانى وعلى طول الطريق إلى بيروت والبقاع وحزام التماس مع سوريا فى حقبتها الجولانية المُعاد تشكيلها إسرائيليا كعجينة طيّعة.
رغم النكهة الواحدة، وأصالة الخصومة الأيديولوجية على طول الفالق العقائدى بين اليهودية الصهيونية والأصولية الإسلامية؛ إلا أن التناقض يبدو ثانويا مع الحوثيين، أقلّه فى الوقت الراهن. فيما هو أساسى ومركزى للغاية مع سَميّهم اللبنانى، ومن ورائه رأس العائلة وذُروة سنام الشيعية المُسلّحة.
وربما يعود الأمر إلى فارق الجغرافيا؛ إنما لا يُستَبعَد أنه وثيق الصلة بالبنية والهياكل وطبيعة المكوّن نفسه. فجنوبا ثمّة ميليشيا صريحة، وفى طهران دولة، وبينهما الحزب يمزج بين الصفتين.
وليس عابرًا أن إسرائيل ترفض السلطة الوطنية فى رام الله؛ بأكثر مِمّا تتشدد مع حماس. وقد حافظت على علاقة متوازنة مع الحركة لعقدين سابقين، لم تخلُ من توافقاتٍ ظاهرة ومُعلنة، ومن تخادُم عرضىٍّ أو مقصود؛ لكنها تُعادى منظمة التحرير على طول الخطّ تقريبًا، وبتصعيد لم يهدأ منذ نجاحها مع الحماسيين فى إفساد مسار أوسلو.
تخشى الميليشيات؛ لكن خشية الدول أكبر، وتتعاظم كلما تزحزحت الأخيرة من حيِّز الرجعية والانقسامات الطائفية على نفسها، إلى نطاق الدولة الوطنية المنضبطة.
لهذا؛ فإنها تتعقّب الحزب ولا تُريد فناءه فعلاً، إنما أن تُبقيه دون الفاعلية، وفوق استخلاص البلد من مخالبه، فلا يكون قادرًا على الإضرار بها، ولا قابلاً للسماح بأن تتعافى لبنان وتستعيد سلامها الداخلى وانتظامها الطبيعى فى عيون الخارج.
عاش الأخير يُتاجر بالتحرير؛ عندما انسحبت إسرائيل من طرفٍ واحد. وقد وظّف فائضه المعنوى وقتها فى التغوّل على الساحة السياسية واتفاق الطائف، وعندما ابتدع حربًا لا مُبرر لها فى العام 2006، وانكسر فيها بلا مراء، أعاد توجيه الهزيمة إلى الداخل أيضًا.
وما يزال إلى الساعة يتحدث عن مركزية المقاومة بين أضلاع الدولة، مُنفلتًا من التزاماته الوطنية بالدعايات والخُطَب الشعبوية، ومن حصرية السلاح بالتلطّى وراء أسبقية البحث فى النقاط المحتلة، فيما يتغافل عن أنه يقف وراء استجلاب الاحتلال من الأساس.
افتتح الرئيس عون عُهدته، فى خطاب القسم، بتغليب منطق الدولة على الدويلة، وأنه لا وجه لتوزّع القوّة على شركاء يُنازعون المؤسسات ولايتها على المجال العام، ولا ينضبطون بعُرف أو قانون.
وبالحمولة ذاتها، عرضت الحكومة بيانها على مجلس النواب، وحازت الأغلبية مشمولة بمُمثلى الثنائى الشيعى. ما يجعل المراوغة فى المسألة خارجةً عن سواء الممارسة السياسية أوّلاً، وأقرب إلى غياب القرار عن الضاحية، والإمساك به فى مكان آخر.
قبل أيّام كان الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال، واختار عون أن يُلقى كلمته من الجنوب. مؤكّدًا من جديد على حزمة من الثوابت التى يُفتَرَض أنها بديهية، فيها السلاح طبعًا؛ لكن أهم ما اشتملت عليه الإشارة إلى رفض التغوّل باسم أى استثناء أو ذريعة أو قوّة، وحصر الولاء بالوطن ودستوره، ليكون القرار مستقلاً وبدافع المصلحة الوطنية وحدها. مُردفًا بأنه لا يصح ولا يُقبَل التعامل مع الظرف، وكأن جماعة لبنانية زالت أو عُزِمت، ومن واجب الجميع العودة تحت سقف الدولة ومظلتها الجامعة.
يغمز من قناة الحزب؛ فيما يردّ على الساعين إلى شطبه من المُعادلة. لا خيارات الأول عادت صالحة للسياق المُستجدّ، ولا أطماع الفريق الثانى يُمكن أن تكون منطقية مع فلسفة لبنان وفكرته الأصيلة، أو توازناته الطائفية والديموغرافية الحرجة.
الذاكرة مُتخمة بالقصص الحزينة، والحاضر يُولِّد مزيدًا منها. ويصح الجدل فى الأدوار والمسؤوليات، قديمًا مع الحرب الأهلية، وحديثا مع ثقافة المُغالبة والتعطيل وفرض الوصايات بحسب الألوان والأهواء؛ إنما لا وجه لافتراض أن العودة إلى الاحتراب يُمكّن أن تؤمِّن موقعًا لأحد على حساب الآخر، ولا أن استراق الوقت وتسييد المعادلات الساقطة يُبشِّر بأفضل مِمّا أفضت إليه الممارسات نفسها طيلة الزمن الماضى.
للرئيس صِلة عضوية بالجنوب؛ لكن رمزية أن يُغادر العاصمة إلى «صُور» فى عيد الاستقلال، تنطوى على رسائل عِدّة للداخل والخارج. فالاشتباك مع الحزب وراء الليطانى حرب على بلد كامل، ولبنان لا يُرسّم بين أهله بحسب هُويّة الساكنين، وهو أصغر كثيرًا من أن يُقَسّم، وأكبر كثيرًا أيضًا من أن تبتلعه طائفة واحدة دون الباقين.
تظل العُقدة وأصل الاستعصاء على الجانب الآخر من الحدود. إسرائيل عدوّ حتى اللحظة، والغالب أنها لن تتغيّر، وقد لا تكون مؤهّلة من الأصل لدور الصديق. والفكرة ليست عن الآخر المُترصّد؛ إنما عن الأنا المُتساهلة، ومَن يُمكّنون لها من تثبيت مُخططاتها على أطراف الخرائط، ثم زحزحتها واقتفاء أثرها بلا هوادة، ودون أُفق واضح أو أمَدٍ معلوم.
وللمعترض أن يحتج بسلوك الاحتلال طبعًا؛ إذ لم يتباطأ عندما أعلن الرئيس مُبادرته للتفاوض أوائل أكتوبر الماضى، فى تسعير الهجمات على الأرجاء كافة لأسبوع كامل. وكرّر التجربة قبل أيام قليلة، عندما جدّد «عون» حديث المفاوضات عبر اللجنة الخماسية أو أية وساطة أمريكية ودولية، فكانت الضربة المباشرة على قلب حارة حريك فى الضاحية، واغتيال الرجل الثانى فى الحزب حاليا، ورئيس أركانه هيثم الطبطبائى.
ولا يحتاج العاقل دليلاً لإدانة الصهيونية، ولا لاستكشاف نواياها السوداء لمحيطها من دون استثناء. لكن الجنوب شهد ستّ سنوات هادئة قبل حرب يوليو 2006، ثم ثلاثة أضعافها قبل مُغامرة «الإسناد والمشاغلة»، ولا يستند أعداؤه اليوم إلا لتهرُّب الحزب من القرار، القديم والمُجّدَّد، رقم 1701، ورفضه المُطلَق للبحث فى حصرية السلاح على أية صيغة.
وإذ لا تتسق سلوكيات الضاحية اليوم، مع ما أقرّته من خلال الأخ الأكبر، نبيه برى، قبل سنة بالتمام والكمال؛ فالباعث لا يعود إلى فكرة التعافى وترتيب الصفوف التى يتحدث عنها؛ بقدر ما يُشير إلى هُدنة إيرانية فى السابق بغرض استنقاذ الحزب قبل الإجهاز عليه بالكُليّة؛ ثم تصعيد حالىّ لأغراض استثماره فى الضغوط والمُناكفات الساعية إلى استعادة التوازن مع الولايات المتحدة، أكان لإنتاج اتفاق نووى جديد، أم لإبعاد شبح التعرض لضربة ثانية أقسى من سابقتها.
ولا دليل أبلغ من كلام محسن رضائى قبل يومين. فالقيادى بالحرس الثورى وعضو مَجمع تشخيص مصلحة النظام، دعا الحزب صراحة إلى مراجعة سياسة «الصبر الاستراتيجى» وإعادة النظر فيها. والفكرة نفسها تعود للجمهورية الإسلامية، وتكرر ورودها على لسان مُرشدها الأعلى، كما أن الآمر بالرجوع عن مسارٍ، غالبًا ما يكون صاحب اقتراح المضىّ فيه من البداية.
أمّا الفخّ هنا؛ فأن ما تعُدّه طهران أصلاً استراتيجيا تُناكف به خصومها، يراه الخصوم على الصورة نفسها وأزيد، ويُفكّرون بمنطقٍ مُعاكس تمامًا قبل التدرّج فى التصعيد.
وبوضوح أكبر؛ فما كانت تل أبيب لتتجاسر على مهاجمة المواقع النووية الإيرانية إلا بعدما حيّدت الحزب فى الميدان، وألزمته بترتيبات قاسية على الطاولة. وإن فكّرت فى العودة؛ فسيتكون البداية من تقليم الأظافر النابتة مُجدّدًا على الجبهة اللبنانية؛ فكأن الراعى يصوّب علامة من ضوء الليزر على قلب الحليف!
وسواء اعترف نعيم قاسم أو أنكر؛ فالثابت أنه من جُملة الأصول والاستثمارات الطويلة لمحور المُمانعة تحت سقفها الشيعى. قالها حسن نصر الله سابقا، وتباهى بها قاسم سليمانى، وما تزال ماثلة للعيان بالتجربة والدليل، ومن دون مُكاشفة واضحة فى تلك النقاط؛ فلن يتوصّل اللبنانيون فى حوارهم إلى شىء، ولن يتوقف مجال الالتباس عن توليد الذرائع، وتدعيم سردية الاحتلال أمام شريكه الأمريكى على الأقل.
والأيام الأخيرة ظهّرت حجم التحوّل فى مواقف الولايات المُتحدة، وتبدّل لُغة مبعوثيها من الاحتواء والتشجيع، إلى الخشونة والتهديد، وحتى الإهانة الصريحة فى أحوالٍ عِدّة. وقِيل بما لا يحتمل التأويل؛ إن واشنطن لن تنتظر بيروت، ولديها مُهَل زمنية محدودة؛ ما لم تغتنمها فى اللحاق بقطار الترتيبات الجديدة فى المنطقة؛ فقد تبقى وحدها على رصيف الضياع وتفويت المواعيد وفرص الإنقاذ.
وسواء مُنِح ممثلو الحزب وعدًا من الرئيس، قبل مراسم تنصيبه فى يناير، بأنه لن يمسّ سلاح الحزب ولا وضعه القائم، أو كان ما يتردّد مجرد اختراع ودعايات من الحزبيّين؛ فالواقع أن المُعادلة الحاسمة ليست داخلية من الأساس، ومشبوكة غصبًا بتقاطعات وتوازنات شتّى من الخارج، ربما أدناها تحييد آلة القتل الإسرائيلية، وأعلاها من دون شكّ العودة بالدولة إلى مدار الانتظام، وإدخالها فى الحاضنة العربية مُجدّدًا، وتعبيد الطريق باتجاه التعافى وإعادة الإعمار.
والجهود من هذا المُنطلَق لا تتجه إلى كسر الحزب، أو المساس بالمكوّن الشيعى الأصيل فى تركيبة البلد وعناصر قوّته. وليس بعيدًا أن الوساطات المختلفة فكرًا واعتقادًا مع الشيعية المُسلّحة، لم تُجنّب الحزبيين من لقاءات الاستكشاف وتداول الخيارات. بل إن الميليشيا نفسها تمتّعت فى فترات سابقة بمؤازرة رسمية من بعض الأطراف، وما تعكّر ماؤها إلا بعدما انحازت للأجندة الفارسية، على حساب الرابطة العربية ومصالح دُولها المباشرة.
المُقاربة المصرية، رأسًا من القاهرة أو فى سياق اللجنة الخماسية، غايتها انتزاع لبنان من متاهة الأيديولوجيا التى استنفدت كامل بريقها وإمكاناتها، والرجوع به إلى نقطة لا يكون فيها طرفًا فى مُغامرات الآخرين، ولا صندوق بريد لتبادُل الرسائل الحارقة فيما بينهم. وإذا كانت صدارة الحزب لواجهة الصورة أورثت البلد ما هو عليه الآن؛ فالمصلحة تُوجب عليه أن يكون أول المُبادرين بالتنحّى؛ ليحيا وتحيا الدولة أيضًا.
لا تريد إسرائيل التفاوض، وهكذا كانت فى غزة أيضًا. وما يزال يحاول إفساد الاتفاق جنوبًا؛ لكن ذلك لا يُسوّغ التضحية بمزايا إنجازه شمالا، لمُجرّد الخوف من الخروقات المُتوقّعة. والحزب أنجز نسخته قبل سنة، فلم يُوقف بها الانتهاك، ولم يسترجع الأرض، ولا تخلّى عن سلاحه ليُخلّى للإدارة الشرعية سبيلاً إلى مُخاطبة الخارج بشرعية إجماعية وسُلطة كاملة.
لم يعُد سلاح الحزب مفيدًا للبنان؛ بل يتسجلب له مزيدًا من المضارّ العاجلة والمؤجلة. وإن كان ثمّة نفع غير ظاهر؛ فإنه ما يُقرّه مُشغّلوه من البعيد لأهداف تخصّهم. النقاط الخمسة مُحتلة قبل نزع السلاح، والضربات لا تتوقف، وما تتساوى فيه الحصيلة تحت ظل البندقية، لا معنى لاحتمال أعبائه الكاملة تحت ضغط الذريعة.
المُناكفة فى تصويت المُغتربين للنواب كافةً تنبع من ذات العقلية المريضة بخيالها القديم؛ لكنها تفاصيل يُمكن استيعابها والتعاطى معها داخليا. التعيينات والقرارات وخلافات التوقيع وغيرها هوامش؛ إنما الأساس أن يُحسَم المُعلّق مع الخارج؛ لكى لا تظل الضربات تتوالى على بيئة مُرتبكة فيما بينها، وفاقدة للغة الحوار المُثمر مع الآخرين.
ظلّت حماس مُتصلّبة لشهور؛ ثم سدّدت أضعاف ما كان مطلوبًا منها، لقاء تنازُلات أقلّ من عدوّها المُبتهج بهداياه من الطوفان. والحزب كذلك؛ فما رُفِض طيلة السنة الأُولى، نُزِل على شروطه فى اتفاق 2024، وما يُدفَع اليوم بحماوة عاطفية وعقائدية، قد لا يتوافر غدا. وواجب الجميع أن يجلسوا إلى طاولة واحدة، وأن يتّفقوا على أنصبتهم من الدواء المُرّ.
التجاوب أوّلاً، وبسعة صدر كاملة، مع جهود الخماسية جماعيًّا وفرديًّا، وإعداد تصوّر واضح للتفاوض لا يقف على الشكلانى دون الجوهرى. ووضع خطّة واضحة ومُؤطّرة زمنيًّا لنزع السلاح، أو تجميده، وإعلان فك ارتباط كل القوى المحلية بالخارج على تنوّعه، وفى قلبها الحزب طبعًا؛ ثم الخطوة الأهم والأكثر شجاعة؛ بأن تتحوّل الميليشيا عن هّويّتها المزدوجة، إلى طابعٍ سياسى صافٍ، قبل أن تُجبَر على ذلك، أو تُحرَم من الخيارين معًا.
لا مُزايدة على مواقف الحاضنة العربية، ولا شكّ فى أنها تُريد للبنان أفضل مِمّا هو عليه الآن. إيران عليها دور فى إعفاء تابعيها من التزاماتهم، والمكوّنات اللبنانية عليها أدوار فى الطمأنة، والدولة مُلزمة بابتداع صيغة أنجع، وأبعد بكل صورةٍ مُمكنة عن تحويل الاحتواء إلى رخاوة، أو الشدّة إلى استعداء واستنفار للعصبيات.
لا مُناطحة الحزب مفيدة، ولا مُغازلته بإفراط. اقتراح المسار بوعى، وتحديده بحسم، والسير فيه ببصيرة، ثم اللقاء مع الأشقاء وتفويضهم فى الوساطة والتمثيل، كلها يُمكن أن تُحدث تحولا نسبيا فى المواقف الأمريكية، وأن يتبعها إجبار لكل الأطراف المُتشدّدة على النزول عن أشجارها. يبقى ألا يظلّ لبنان مهجوسًا بالحرب الأهلية، ولا أن يتقاعس عن الضرورى الراهن للعلاج؛ لأن آخر الدواء الكىّ.