خالد عزب

بغداد فى المخيلة العربية الإسلامية

الأربعاء، 26 نوفمبر 2025 01:18 م


تبدو بغداد فى المخيلة العربية والإسلامية مدينة فريدة فى بنيانها وتراثها. نهل منها الشعراء والمؤرخون، واستظلّ بظلّها الرحّالة والجغرافيون، حتى صارت وفرة المؤلفات والمصنفات التي تناولتها خير مظانٍّ يمكن الرجوع إليها عند الحديث عنها.

كان الشاعر جميل صدقي الزهاوي في قصائده: "بغداد" و"عن بغداد" و"أيام بغداد" يجعلنا ننكأ جراح هذه المدينة تارة، ونفتخر بها تارة أخرى، ويدفعنا للحنين إلى أمجادها تارة ثالثة، يقول في مقطوعة تحرّك كوامن الأشجان وهواجس المشاعر وتنكأ الجراح:

أتعود بعد تَصَرُّمٍ ونفادِ
أيامُ بغدادَ إلى بغدادِ؟
أيامُ بغدادَ التي في مُرِّها
كانت عوادي الدهرِ غيرَ عوادِ
كانت مَحَطًّا للعُلومِ وأهلِها
وقرارةً للمجدِ والأمجادِ
اليومَ هاتيك العلومُ جميعُها
مدفونةٌ بمقابرِ الأجدادِ
قد عاش في نعيمٍ أهلُها
فإذا النعيمُ وأهلُها لنفادِ
أيامُ مَدِّ الأمنِ وارِفَ ظلُّهُ
فيها كانت جنةَ المرتادِ
أيامُ بغدادَ تضيءُ جميلةً
فتلوحُ مثلَ الكوكبِ الوقّادِ

هذه المقطوعة يضع فيها الشاعر يده على آلامٍ مدفونة في ذاكرة أهل بغداد؛ فقد كانت في عصرها الذهبي عاصمة دولة عظمى امتدّت من الصين إلى المغرب العربي. لم تكن عاصمة الخلافة العباسية فحسب، بل كانت كذلك العاصمة الاقتصادية التي صبّت فيها حركة التجارة الدولية عبر طرق التجارة المختلفة، حتى باتت أكثر مدن العالم ازدهارًا. ولذا أصبح تجارها ذوي خبرة واسعة، نقلوا جانبًا من الحركة التجارية معهم إلى القاهرة بعد نكبة سقوط بغداد في يد المغول.
وفي مخيلة الشعراء، مثل معروف الرصافي، تبدو بغداد مدينة حزينة، إذ يقول:

بغدادُ حسبُكِ رقدةٌ وسباتُ
أوما تُـمِضُّكِ هذه النكباتُ؟
وَلَعَتْ بك الأحداثُ حتى أصبحتِ
أدواءُ خَطبِكِ ما لهنّ أساةُ
قلبَ الزمانُ إليكِ ظهرَ مُجَنّهِ
أفكان عندكِ للزمانِ تراتُ؟

كأنه كان يرى ما سيقع لبغداد من تدمير. يظن البعض أن الخراب طال البنيان فحسب، لكنه طال الإنسان المبدع وأثر في الشخصية البغدادية. ومثلي يحلم بعودة بغداد إلى عصرها الذهبي: مدينة تقرأ وتكتب وتبدع. لكنها، للأسف، وقعت في براثن الصراعات السياسية، وخاضت حروبًا لم تجنِ منها شيئًا، ثم دمرها الغزو الأمريكي عام 2003، لا لأن العراق بلد إرهاب، بل لأنه كان حائط الصد الشرقي. ومن يستطيع أن ينسى دور العراق في حرب أكتوبر 1973، خصوصًا على الجبهة السورية؟

عاد شارع المتنبي عام 2021 بعد أن طالته يد العنف والإرهاب، وكان بشيرًا بعودة بغداد، لكن الغياب ما زال طويلًا. وعلينا أن نسأل المثقفين والأدباء والمفكرين في بغداد: إلى متى؟

إن ما نراه في الساحة الثقافية العربية يتطلب عودة بغداد كمركز ثقل للثقافة العربية؛ فوجودها يشعل المنافسة ويجدد الريادة، ويجعلنا نأمل أن الثقافة قادرة على قتل الطائفية التي دمرت هذا البلد. عودة بغداد الثقافية تفتح الشهية لجدل صحي تحتاجه المدينة. وعلى بغداد أن تدرك أنها تبني على موروث صنعته هي؛ فمجلات مثل "المورد" و "الموسوعة الصغيرة"  و "آفاق عربية"  و"التراث الشعبي"  كانت تصدر ثقافة راقية كنا ننتظرها شغفًا، وغيابها عن الساحة غياب لدور العراق نفسه. كما أن عودة مهرجانات الشعر والخط العربي وأنشطة الفكر والفنون هي عودة لروح بغداد.

أما بغداد التي صارت مدينة للأبراج المرتفعة، فقد غادرت شخصيتها المعمارية التي عرفناها، وصارت نموذجًا لمدن تلهث وراء الارتفاعات دون بنية حقيقية تخدمها، فكأنها صعود بلا أرض راسخة. عرفنا العراق بلدًا له شخصية معمارية مميزة؛ فهو الذي قدّم محمد مكية ورفعة الجادرجي وزها حديد. أما نمط الحداثة العمرانية الطارئة، فهو غريب على بغداد التي تألّقت بعمرانها منذ عصرها العباسي الذهبي.

تبقى بغداد مدينة التراث، وتراثها راسخ ممتد عبر الزمن. لذا فإن غيابها هو غياب ركن أصيل في الثقافة العربية المعاصرة.

فهل حان الوقت كي تستفيق بغداد؟




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة