بيشوى رمزى

غزة وأوكرانيا.. الرؤية الأمريكية والمبادرة الإقليمية

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 09:00 ص


الخطة الأمريكية حول الأزمة في أوكرانيا، تحمل رؤية واضحة لوقف إطلاق النار، وتتضمن بنودا عدة، ربما ارتبطت في النقاط الجدلية، بالتنازل عن الأراضي التي سيطرت عليها روسيا فعليا خلال الحرب، بالإضافة إلى تجريد كييف من أحقية الانضمام إلى الناتو، ناهيك عن إجراء انتخابات رئاسية خلال مدة محددة، إلا أنها تضمنت كذلك مسارا اقتصاديا، وأخر أمنيا، وبينهما مسار سياسي واضح، فالأول ارتبط بإعادة إعمار المناطق التي هدمتها الحرب، والثاني ارتبط باتفاقية عدم اعتداء بين روسيا والغرب، في حين يبزغ المسار الثالث كنتيجة حتمية تدور حول التحول من العداء المطلق إلى قدر مما أسميته في مقال سابق بـ"الشراكة الباردة"، والتي تجد نقطة انطلاقها في حالة من الاطمئنان المتبادل، ولو مرحليا، بين الطرفين (روسيا والغرب) بعدم وجود تهديد حقيقي.

والحديث عن خطة واشنطن، نجد أن ثمة أبعادا مستلهمة من الرؤى التي تمحورت حولها أزمة غزة، وعلى رأسها مسألة إعادة الإعمار، والتي تمثل المركز التي دارت حوله الرؤية المصرية، عبر خطتها التي مررتها عربيا في قمة استثنائية في مارس الماضي، بالقاهرة، في حين ظهرت أبعادا أخرى اختصت بالمعضلة الأوكرانية، وعلى رأسها مسألة الانضمام للناتو، والتي كانت بمثابة القلق الرئيسي والتهديد الحقيقي الذي دفع موسكو لشن حملتها العسكرية على كييف في فبراير 2022، وهو ما يثير حالة من الامتعاض الغربي، دفع قوى أوروبية رئيسية إلى الخروج بمقترحات مضادة.

الفارق الجوهري، بين خطتي غزة وأوكرانيا، تجلت بوضوح في حالة الفعل ورد الفعل، ففي القطاع كان الفعل مصري ذو غطاء إقليمي عربي، عبر خطة واضحة، كانت أساسا لتشكيل رؤية واشنطن، بينما سبق الخطة مواقف واضحة من قبل القوى الإقليمية الفاعلة، تجاه القضية، منها رفض التهجير أو الفصل الجغرافي، وهي دعاوى إسرائيلية، ولكن احتفظت بمرونتها لتكون مؤهلة للقيام بدور الوسيط، وهو ما بدا في الدور الذي لعبته مصر وقطر، إلى جانب واشنطن، وهو ما يسلط الضوء على القدرة الكبيرة على المناورة، عبر تعزيز الثوابت دون استعداء صريح ومباشر لأي طرف من أطراف المعادلة الإقليمية أو الدولية، وهو ما فتح الباب أمام خلق توافق دولي عابر للإقليم، دفع إلى انتصارات دبلوماسية ولدت من رحم مشاهد القتل والقصف التي عاشها القطاع لعامين كاملين، وعلى رأسها سلسلة الاعترافات المتواترة بالدولة الفلسطينية.

وأما في أوكرانيا، فالأمر يبدو مختلفا تماما، فالتوافق غائب، والرؤية الموحدة حول ثوابت القضية ليست موجودة على الإطلاق، وهو ما يظهر في العديد من المسارات، فعلى المستوى البيني، هناك دولا آثرت الحياد، حتى لا تدخل في دائرة العداء مع موسكو، وأخرى حملت مواقف تميل إلى الروس، وحتى وإن كانت أقلية، وعلى مسار آخر، فالنظرة الشعبوية لروسيا، حتى في قلب أوروبا الغربية، لا تحمل نفس القدر من العداء الذي يحمله الخطاب الرسمي، بل أن ثمة خلافات في داخل العديد من الدول الأوروبية حول السياسات التي تنتهجها ضد موسكو، وتداعياتها على قطاعات حيوية وعلى رأسها قطاع الطاقة، وهو الأمر الذي يمتد إلى الأحزاب السياسية، في ضوء ميول اليمين الصاعد بقوة نحو الجانب الروسي.

وهنا تبدو المقترحات الأوروبية، والتي جاءت بعد الحديث المتواتر عن خطة واشنطن، متأخرة من حيث الزمن، فكان من المفترض أن تكون المبادرة أوروبية، بالتالي تتحول إلى نقطة الانطلاق لتقديم حل إقليمي لأزمة تهدد القارة بأسرها، في إطار ترتيب إقليمي، من شأنه الوصول إلى صيغة توافقية يمكن الترويج إليها دوليا، فتصبح بمثابة البوصلة التي تستلهم منها واشنطن خيوط، قد تراها القوى الغربية أكثر أنصافا، بينما تعكس حالة من الجمود في إدارة الأزمة في الداخل القاري، منذ سنوات، حيث اقتصرت الرؤية القارية للحل على ممارسة الضغوط عبر العقوبات، والخطابات، والإدانة والشجب والتهديد أحيانا، دون تواصل مع طرف بعينه، وهو روسيا، من أجل الوصول إلى صياغة توافقية لحل الأزمة.

معضلة أوروبا الحقيقية لا تتجلى في واقع الأمر على غياب التأثير، فالقوى الفاعلة بالقارة تمتلك من الأدوات سواء السياسية أو الاقتصادية، ما يؤهلها لإدارة إقليمها الجغرافي، وإنما في نهج الاعتماد المطلق على الحليف الأكبر، وبالتالي غياب الاستقلالية في صناعة المواقف، وهو ما يبدو في الجذور التاريخية للصراع، وحالة العداء المطلق لروسيا، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انتصارا للقوى الأمريكية البازغة، ليتجلى مأزق القارة الحقيقي في قدرة واشنطن على تخفيف حالة الخصومة مع موسكو، رغم كونها الطرف الأصيل في الصراع، بينما يفشل الوكيل في ذلك، ليجد نفسه في اللحظة الراهنة على خط المواجهة المباشرة، في الوقت الذي تخلى عنه الحليف.

المفارقة الأكبر بين الأزمتين تتجلى في قدرة الإقليم على صياغة مقاربة فاعلة تجاه غزة، ليفرض نفسه على الولايات المتحدة، ودفعها إلى تبني عناصر أساسية من الطرح المصري ذو المظلة العربية، بينما أوروبا في المقابل لم تتمكن من امتلاك زمام المبادرة،  فوجدت نفسها أمام رؤية أمريكية خالصة لحل الأزمة الأوكرانية، في حين تبقى احتمالات الوصول إلى صياغة بديلة محل شك، وهو الأمر الذي يرجع في الأساس إلى غياب البعد المركزي، فالعداء تجاه روسيا، لاسترضاء أمريكا كان الأساس الذي دارت حوله المواقف الأوروبية لعقود، لتجد القارة العجوز نفسها في المواجهة بل ودون غطاء أمريكي بعدما جنحت واشنطن نحو تخفيف التوتر مع موسكو، بينما كانت فلسطين وما تشكله من حالة مركزية في الشرق الأوسط، وما تحمله من ثوابت، بمثابة أمور محل إجماع إقليمي، ساهمت في صياغة الموقف الموحد.

وهنا يمكننا القول بأن اللحظة الدولية الراهنة تكشف عن مشهد جديد يتجاوز جبهتي غزة وأوكرانيا، في إطار صعود أقاليم قادرة على امتلاك زمام المبادرة، مقابل تراجع أقاليم كبرى، رغم ما تملكه من نفوذ سياسي واقتصادي، وربما استقرار طويل الأمد، أطال أمد التبعية لحليف واحد، وهو الأمر الذي تحاول أوروبا تداركه، بصورة يشهد لها القاصي والداني، عبر شراكاتها العابرة للقارات مع قوى مؤثرة دوليا، إلا أنها تبقى في حاجة الآن إلى الانتصار لثوابت حقيقية صلبة، ترتبط بمفاهيم السيادة والشرعية، وتعتمد نهج الشراكة مع الجميع، للوصول إلى صياغات مقبولة لأزماتها، يمكن البناء عليها مستقبلا.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب