تستوقفني كثيرًا الكتابات الموجهة لليافعين؛ أرى فيها نوعًا من الاستثمار في المستقبل الذي يجب أن نتكاتف جميعًا من أجل إنجاحه، خاصة في ظل تيه رقمي أخذ أجيالًا بأكملها بعيدًا، وتسونامي السوشيال ميديا الذي خلق تصدعات قيمية وسلوكية لا تعد ولا تحصى.
لن أندهش كثيرًا إذا قمنا بسؤال عشرة فتيان في عمر الورد عن عبد الوهاب الأسواني: من هو؟ وما هي أهم أعماله؟ ولم نجد من بينهم مجيبًا، للأسف أصبح هذا متوقعًا بشدة في ظل حالة من التسطيح التي خلقتها وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحولت في أحيان كثيرة إلى ساحة للهدم وفضاء للتزييف.
من بين الكتب الصادرة حديثًا والتي أسعدتني كثيرًا كتاب "عبد الوهاب الأسواني.. حكاء الجنوب" للكاتب القدير الأستاذ خالد إسماعيل، والصادر عن سلسلة "عقول" في الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي يرأس تحريرها عبد السلام فاروق.
أعترف أنها المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي أقرأ فيها أحد إصدارات هذه السلسلة، والتي تسعى إلى إعادة تقديم سير أعلام مصر لليافعين، مستهدفة الفتيان والفتيات من 14 إلى 18 سنة في تحرك بالغ الأهمية لتحصين الأجيال الجديدة من أخطار شتى تحدق بهم من كل اتجاه.
إعادة الاعتبار للشخصية المصرية
نجح خالد إسماعيل في إعادة تقديم عبد الوهاب الأسواني لمن يعرفونه ولمن لا يعرفونه بطريقة ملتفتة وبصنعة أدبية حشد فيها كل أدواته ككاتب كبير وروائي متيم بالجنوب؛ وضع خالد إسماعيل الفئة المستهدفة من القراء نصب عينيه جيدًا، لذا صاغ كتابه بأسلوب بالغ التشويق والإثارة.
لا يكتب خالد إسماعيل عن عبد الوهاب الأسواني بقصد توثيق السيرة والمسيرة فقط، لكن من بين ثنايا السطور يتبين للقارئ أنه يؤدي دينًا في عنقه عبر إحياء سيرة إنسان نبيل وأديب مصري بمواصفات عالمية جمعته به وبأسرته وبابنه سامح علاقة خاصة.
الكتاب الذي لا يزيد عدد صفحاته عن 108 صفحة يحوي واحدة من السير الملهمة التي أرجو أن تأخذ حقها من الاهتمام، لإنها تعيد الاعتبار إلى الشخصية المصرية الأصيلة المتمسكة بتراب هذه الأرض والمحصنة في وجه كل أعداء الخارج والداخل.
يقدم كتاب "عبد الوهاب الأسواني.. حكاء الجنوب" لخالد إسماعيل مشاهد حية من التنوع الذي يشكل جزءًا أساسيًا من شخصية مصر التي عاش على أرضها يونانيون وقبارصة وإيطاليون لسنوات طويلة دون أن يحسوا بأي غربة.
في سيرة الأسواني أيضًا دليل عملي لتحقيق الأحلام بدون معلم، والنحت في الصخر دون كلل من أجل أن يكمل الإنسان الطريق الذي رسمه لنفسه. عشق الأسواني القراءة حتى أنه كان يحتال من أجل العيش مع كتاب جديد، وفي أحيان كثيرة كان لا يتمكن من فعل ذلك إلا وهو يستعد للنوم، يختفي عن الأعين فوق فراشه،في ظل أب أراد أن يورث ابنه التجارة ورأى في الثقافة مضيعة للوقت وتبديدًا للطاقة!
لم يكتفِ الأسواني بهذا، وإنما حاول أن يكمل تعليمه من خلف ظهر أبيه الذي خشي أن تفسد المدارس ابنه، فأراد أن يكتفي بالابتدائية. ورغم أن الحالة المادية للأسواني في بداية حياته كانت أفضل من الكثير من أقرانه، إلا أنه لم يحزن عندما اضطر في مرحلة من مراحل حياته إلى السفر للخليج من أجل تحسين دخله.
التثقيف الذاتي والنحت في الصخر
ولد الأسواني في قرية جزيرة المنصورية بمحافظة أسوان، وانفتح على العالم عندما انتقل إلى الإسكندرية التي كانت في تلك الفترة ملتقى الأفكار في العالم، لكن الأسواني ظل مرتبطًا بقريته يتنقل بينها وبين المدينة الساحلية محافظًا على جذوره القوية في باطن الأرض الطيبة. كون الأسواني نفسه بنفسه، اعتمد على ساعده القوي في مواجهة الحياة التي لا تعطي القليل دون أن تأخذ الكثير، ولجأ إلى التثقيف الذاتي، فقرأ بنهم في الأدب والتاريخ والدين والفن، وتردد على الندوات الثقافية، واختلط بكبار الكتاب.
شق طريقه في منتصف الستينات عندما فازت روايته الأولى "سلمى" الأسوانية بجائزة نادي القصة معلنة عن عمل جديد ينقب في الجنوب بحثًا عن القبائل والتكوينات البشرية بالغة الخصوصية والأصالة.
تحسم سيرة الأسواني الكثير من سجالات الهوية التي تتجدد من حين لآخر مجسدة ثقافة أهل أسوان العربية التي ترتوى من الجذر الفرعوني العريق دون تعارض أو تنافر، مؤكدة حقيقة أن اللغة العربية والهيروغليفية تنتميان إلى أسرة لغوية واحدة.
تقدم سيرة الأسواني درسًا بليغًا في التسامح حيث يقول في جزء منها: "أتعاطف مع أبناء الديانات التي يسمونها وثنية، الذين ألتقي بهم كثيرًا كالـبوذيين والهندوس من مقدسي البقر، وأمنع أي أحد يحاول جرح شعورهم بالسخرية من معتقداتهم".
انحاز الأسواني لمصر لذا يعد واحداً من أبرز الكتاب المهتمين بالثقافة الوطنية. هذه اللحظة تستدعي إعادة الاعتبار لسيرته ودعوة الأجيال الجديدة للتعرف عليه من خلال كتاباته. كتاب خالد إسماعيل عن الأسواني بما يقدمه من سيرة ملهمة ودروس في الوطنية يستحق من مسؤولي وزارة التربية والتعليم تعميمه على طلاب المرحلة الثانوية أو جعله مادة لنقاش بناء بين التلاميذ والمدرسين خاصة في ظل الحملات التي تقوم بها الوزارة لمواجهة التنمر والعنف المدرسي.