بنظرة فاحصة لجدول أعمال كل الأحزاب السياسية على الساحة، المعارضة قبل الموالية، وحديثها قبل قديمها - ولن نقول أفكارها الأيديولوجية أو برامجها الفكرية - فى إدارتها للعمل الحزبى بشكل عام، ومع كل استحقاق انتخابى أو حدث سياسى تخوضه، على وجه الدقة، ستفاجأ باختفاء كل عناصر الإبهار، ولن تجد سوى أحلام كبيرة تتصادم مع الواقع، ومحاولات حثيثة للاستقطاب القائم على المنفعة، لا عن قناعة فكرية أو أيديولوجية.
وهو عكس العمل الحزبى، فالسياسة لا تُدار فقط من مقرات الأحزاب فى العاصمة، أو من خلال نشر بيانات إبداء الرأى حيال القضايا، أو عبر منصات السوشيال ميديا بتدشين الهاشتجات وملاحقة التريندات، وإنما تُدار من خلال التلاحم الشعبى، والوصول إلى الجذور العميقة للتركيبة السكانية، ومن شبكات الولاء التاريخية للعائلات والقبائل الممتدة عبر محافظات الصعيد والدلتا والحدودية.
التركيبة السكانية فى مصر، وفى القلب منها القبائل والعائلات، تتمتع بسمات مختلفة ومغايرة، وتحكمها ثقافة متجذرة فى الأعماق، فالولاء للقبيلة، يمتد طبيعيا للولاء للوطن، ولطالما كان انضمامهم للأحزاب ذات الأغلبية، منذ حزب الوفد الذى كان حاكما قبل ثورة 1952 ومرورا بعدد من الأحزاب، حتى تاريخه، مبعثه الاعتقاد الراسخ أن حزب الأغلبية هو الظهير السياسى القوى للوطن، والداعم للأمن والاستقرار.
الحقيقة أن الأحزاب قبل يناير 2011 كانت ضعيفة، ومنفصلة عن الشارع، ولم يستطع حزب واحد أن يقنع بضع مئات بأفكاره وبرامجه، بينما كانت جماعة الإخوان تنتشر كالأورام السرطانية، وحجة الأحزاب خاصة المعارضة، حينها، أن عصا الأمن الغليظة كانت تعيق انطلاقتهم فى الشارع، وعندما اندلع حراك 25 يناير 2011 وتهدم سقف الشارع، وصار مفتوحا أمام كل التيارات الفكرية والأحزاب السياسية دون أى عائق أو مانع من أى نوع، فسقطت الحجج وتحطمت شماعات التبرير، ورغم ذلك، اندثرت شعبية الأحزاب، ولم تستطع أن تقنع «شارعا أو نجعا صغير» بأفكارها، نظرا لغياب القدرة والجدارة الفكرية والبرامج السياسية المقنعة.
وظهرت أحزاب جديدة، أحدثت حراكا جيدا، وتوسم فيها الشارع خيرا بأن تنتشر وتتوغل شعبيا، لكن وكون معظم رؤساء وقيادات هذه الأحزاب، لا يتمتعون بمنسوب معرفى مرتفع عن خريطة التركيبة السكانية، وإنها جغرافيا اجتماعية مُحكمة بناها التاريخ، ورسختها المواقف الوطنية، أدى إلى تراجع تأثير بعض هذه الأحزاب فى المحافظات المختلفة؛ إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن خريطة التركيبة السكانية، معرفتها ضرورية، فهناك ثقافات مختلفة بين القاطنين فى الصعيد، عن القاطنين فى الدلتا، ومدن القناة، مع اختلاف رابع عن القاطنين فى المحافظات الحدودية.
بل الاختلاف من قرية إلى أخرى، فى الحيز الجغرافى والإدارى لمدينة واحدة، التابعة لنفس المحافظة، تجد اختلافا ما بين القرية والمجاورة لها فى جزء من اللهجة والعادات والتقاليد، وهى ثقافات متجذرة، وعبقريتها فى تنوعها، مع احترام كامل لهذا الاختلاف فيما بين أبناء القرى، وأيضا العائلات والقبائل.
لذلك، عند طرح السؤال الجوهرى: لماذا ينخفض المنسوب المعرفى لرؤساء وقيادات الأحزاب والنخب السياسية الجديدة، فى قراءة الخريطة السكانية؟ والإجابة، غياب توضيح وتبسيط السياسات إلى «خطوط وطنية عامة» وتعميم لغة خطاب وشعارات حزبية، فى جميع المحافظات والمدن والقرى، كوحدة واحدة، وليس وفق، خريطة اجتماعية مختلفة فى اللهجة والعادات والتقاليد، والثقافة والتعليم بجانب الاحتياجات المهمة.
أيضا، التأكيد على أن نائب الخدمات لم يعد مغريا لأبناء دائرته، لأن الدولة استطاعت بمشروعها العظيم، حياة كريمة، إحداث طفرة فى تقديم كل الخدمات الصحية والتعليمية بجانب تطور لافت فى البنية التحتية، ومن ثم فإن معايير اختيار المرشح لخوض الانتخابات البرلمانية على سبيل المثال، اختلفت، وتبدلت الأولويات، وهو ما غاب عن وعى رؤساء وقيادات الأحزاب، فصارت اختيارات المرشحين تتقاطع مع رغبات أبناء الدوائر، وحيثياتهم.
أيضا افتقاد أحزاب كثيرة لكوادر ميدانية مؤثرة وقادرة على التفاعل كل فى مجتمعه، وفهم العُقد القروية والقبلية والثقافية، ما يجعل خطابهم يُسمع لكن لا يُقنع، كما أن الاعتماد على حجم التواجد الإلكترونى والبيانات الإعلامية والمؤتمرات «المهندسة» لقياس حجم الانتشار والنفوذ فى الشارع، خاطئ، وأن المعيار الحقيقى هو الاحتواء والتلاحم مع كبار العائلات والقبائل الوطنية، وأصحاب النفوذ المحلى، بجانب تبنى سياسة قائمة على تلبية الاحتياجات المحلية الحقيقية على مستوى، الأحياء والقرى والنجوع والمدن والمحافظات المختلفة.
السياسة الذكية والحكيمة تبدأ برسم خريطة أهداف واحتياجات الناس، ومعرفة أعمارهم وأنماط حياتهم، حسب كل منطقة جغرافية، والتحدث بلغتهم واحترام عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم، وإدراك أن التقاطع مع هذه الخريطة أو تجاهلها، ينتج سياسة سطحية لا تنال ثقة المواطن ولن تصنع حلول مستدامة.
رفع منسوب المعرفة عند الكوادر الحزبية المختلفة، عن خريطة التركيبة السكانية، والتعامل معها بعيدا عن لغة الأرقام، وإنها شبكة علاقات اجتماعية لها أوزان سياسية، شرط جوهرى لاكتساب الشعبية وانتزاع الحصانة السياسية وترك بصمة وأثر اجتماعى حقيقى، فالقبائل والعائلات الكبرى ليست «بقايا تقليدية» بل فاعلون سياسيون ومصرف خدمات محلى، وأن أى حزب أو سياسى يريد الفوز والتأثير الحقيقى يجب أن يقرأ هذه الخريطة بفهم عميق، وقدرة على الاستيعاب، ليعيد تعريف أدواته الميدانية، ويضع سياسات مكانية قابلة للقياس والتقييم والتعاطى معها باقتناع.