محمد عبدالرحمن زغلول

«اغتراب».. رحلة الإنسان المعاصر بين التشيؤ والعزلة

السبت، 22 نوفمبر 2025 12:00 ص


في زمن تتكاثف فيه المسافات بين الإنسان ونفسه، وتتداخل فيه خيوط الرغبة في الانتماء بالخوف من التورّط، يعود الفن ليطرح سؤال الاغتراب، لا كحالة نفسية عابرة، بل كقدر معاصر يطوّق الفرد من كل الجهات، يتحول العمل الفني هنا من مجرد صياغة جمالية إلى نافذة واسعة تكشف عزلة الإنسان في بيته وذاكرته وعلاقاته اليومية، وتعرّي هشاشة الروابط التي نظنها ثابتة، وتلك الفجوات الصامتة التي تتسلل إلى داخلنا بينما نمارس حياتنا كما لو أنها طبيعية.

من هذا المنطلق يمكننا النظر إلى الفيلم التونسي «اغتراب» تأليف وإخراج لمهدي هميلي، والذي عُرض مؤخرًا ضمن المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي. تدور أحداث الفيلم حول انفجار يقع داخل فرن إحدى شركات الحديد والصلب، يسفر عن وفاة أحد العمال، لتخرج التحقيقات الرسمية تُحمل العامل المتوفى مسؤولية الحادث، يرفض زميله هذا الاتهام، فيدخل في حالة اغتراب نفسي متصاعد: اغتراب بينه وبين عمله، وبين نشاطه وذاته، وبين الآخرين ونفسه. ينطلق في رحلة بحث عن الحقيقة، ليكتشف سلسلة من المفاجآت التي تضعه في مواجهة ذاته والعالم من حوله.

ومنذ العتبة الأولى للفيلم/ العنوان يضع هميلي المُشاهد أمام تساؤلات جوهرية، فأي اغتراب يقصده؟ هل هو ما تحدث عنه «بتروفسكي» بوصفه التناقض بين عمل الإنسان ونشاطه وذاته ومن حوله، والذي يُعبر عنه عبر مشاعر العزلة والوحدة وفقدان الهوية؟ أم هو ما ذهب إليه «ماركس» حين رأى الاغتراب انفصالًا جوهريًا للعمال عن طبيعتهم الإنسانية تحت النظام الرأسمالي، حيث يفقد العامل علاقته بنتاج عمله، وبعملية الإنتاج، وبزملائه، وبقدراته الإبداعية، فيغدو مجرد ترس ميكانيكي داخل آلة ضخمة؟

بهذا التأسيس النظري، يفتح الفيلم مساحة قراءة أوسع، فالاغتراب هنا ليس مجرد خلفية فلسفية، بل تجربة إنسانية ضاغطة يعيشها البطل، ونافذة تعكس هشاشة الإنسان المعلّق بين ما يريد وما يُفرض عليه، بين ذاته والواقع الذي يبتلعه دون رحمة.

منذ اللحظة الأولى يأخذنا مهدي هميلي إلى عالمه الخاص، الذي صاغه بواقعية شديدة، تجعل المتلقي جزءًا من الحدث لا مجرد متفرج.. يظهر مصنع الحديد والصلب عملاقًا في هيئته، لكنه في جوهره منشأة فقدت دورها أمام التطور والتكنولوجيا، وأصبحت عبئًا يحتاج إلى تطوير جذري أو إلى التخلص منه، وسط هذا الظروف القاسية مهنيًا وإنسانيًا ينفجر فرن صهر الحديد فجأة، ليسفر عن وفاة عامل يُدعى عادل، لتصبح وفاته محورًا أساسيًا للدراما، رغم أنه لا يظهر في الأحداث إلا كظلّ أو صورة شباحية، في إشارة واضحة إلى معنى الغياب وتعزيزًا لثيمة الاغتراب التي ينسجها الفيلم.

ورغم أن التحقيقات تُحمل عادل مسؤولية الحادث باعتباره «خطأ فرديًا»، يرفض صديقه وزميله الناجي محمد هذا التفسير، ويبدأ محاولاته لإقناع بقيّة العاملين بالبحث عن الحقيقة، ليجد المتلقي نفسه منساقًا داخل عالم هميلي، متلمّسًا توتراته من خلال العامل المأزوم الذي فقد أقرب الناس إليه في حادث مفاجئ، فيدخل في دوائر متراكبة من الاغتراب، اغتراب عن ذاته، وعن زملائه، وعن موقعه في العمل بعد تلك الصدمة.

ومع إصرار محمد على كشف الحقيقة وعدم قدرته على العودة إلى «الاعتياد» السابق، تبدأ الإدارة في تهديده بالتقاعد الإجباري إن لم يتوقف عن طرح الأسئلة، هنا تتأكد شكوكه حول احتمال تدبير الحادث، ويتحول الاغتراب من مجرد ثيمة درامية إلى بناء كامل يتشكل في الإيقاع، والعوالم، والشخصيات، ليقدم الفيلم تجربة وجودية يختبرها المتلقي قبل البطل نفسه؛ مرآة لعالم فقد قدرته على الإصغاء، وعلى احتضان الإنسان في ضعفه ووحدته.

هنا ينتقل الفيلم إلى ضفة أكثر قسوة وصدمة؛ إذ تتسع الرؤية تدريجيًا أمام محمد، وتبدأ الحقيقة في التشكل، الجميع كان متورطًا بشكل أو بآخر في مقتل عادل - زوجته، زملاؤه، رؤساؤه، وإدارة الشركة - من دون أن يكترث كل هؤلاء لحقيقة أن إنسانًا قد مات، لتصبح وفاة عادل مجرد تفصيلة هامشية في منظومة ضخمة تتشيّأ فيها الأجساد، ويتحوّل فيها الإنسان إلى شيء، في ظل مجتمع يُفقد الفرد قيمته، ويُنزعه من إنسانيته، ويحوّله إلى ترس يعمل وفق النمط الذي ترسمه النظم الرأسمالية، في هذا المناخ، يصبح حتى الاعتراض أو البحث عن الحق رفاهية غير مسموح بها، تحت وطأة الهيمنة، واتساع البيروقراطية، وضغط الظروف التي تسحق وجوده وتشل قدرته على المقاومة.

وفي هذا الإطار يتحوّل محمد تدريجيًا من عامل يسعى لإنصاف صديقه الراحل إلى كائن منفلت الغضب، يواجه المتورطين واحدًا تلو الآخر، فيقتلهم جميعًا في إشارة دالة على أن الإنسان، حين يُسحق في نظام قاسٍ وغير إنساني، قد يتحول إلى وحش تدفعه الظروف لا طبعه، وتبلغ الرحلة ذروتها حين يقدِم على إحراق المسؤول الكبير في الشركة داخل سيارته، وهو معه داخلها؛ لتصبح النهاية تأكيدًا صارخًا على أن الاغتراب، في أقصى درجاته، يدفع الإنسان إلى فقدان روحه وعقله وكيانه، ويتحوّل بدوره إلى ضحية ومجرم في آن واحد، نتيجة نظام يلتهم إنسانيته من جذورها.

بشكل عام صاغ مهدي هميلي صورته السينمائية بصيغه جمالية معبرة عن الدراما والحالة الداخلية للإبطال، فكانت الصورة في أغلب الأحيان داكنه تميل إلى اللون البني الذي يشبه صدى الحديد، في إشارة إلى أن تلك المجتمعات صدت، وفقدت معانيها ومفاهيمها، فأصبحت غير قادرة على تلبية متطلبات الإنسان الترس الأهم في منظومتها، وفشلت في تحقيق الآمال التي بشرت بها، ليتحول مصير ملايين البشر إلى كابوس وعالم خانق غير إنساني.

كذلك مالت الصورة في كثير من المشاهد، خصوصًا تلك التي يظهر فيها البطل، إلى تكوينات ضبابية أقرب إلى الغيوم، في دلالة جمالية تُحيل إلى غياب الحقيقة وضبابية الرؤية، وتعبر بصريًا عن التشتت الداخلي الذي يعيشه البطل وعجزه عن إدراك ما يجري حوله بوضوح.

غير أن الصيغة التي اعتمدها هميلي شابها قدر من البطء في الإيقاع، ما يجعل المتلقي يعاني لحظات كثيرة من الملل أحيانًا، وإن كان هذا البطء مبررًا داخل سياق الحالة النفسية للبطل الذي خسر كل شيء فجأة، ووجد نفسه يعيش في عالم موازٍ يبحث فيه عن ذاته، وهكذا تحوّل الصراع الدرامي إلى رحلة داخلية لاكتشاف الذات والسعي إلى العيش بوعي وأصالة وحرية.

كما يُؤخذ على العمل فتحُه لعددٍ من الخطوط الدرامية دون أن يوفّر إجابات عن الأسئلة التي تثيرها، أو أن يقدّم تفسيرًا واضحًا للحالات الدرامية التي ظهرت وتطلّبت نهايات أو معالجات محكمة داخل البناء الدرامي. لذلك بدت بعض الأحداث زائدة عن الحاجة، فيما جاء بعضها الآخر غير مفهوم تمامًا؛ مثل محاولة قتل محمد داخل المصنع، وكذلك حديث زوجته عن طبيعة العلاقة التي ربطته بالعامل المتوفى، وهو ما أثار نقاشا لدى بعض المتلقين عن احتمال وجود علاقة ملتبسة بينهما، دون أن يمنح العمل ما يكفي من شواهد أو دلائل درامية تبرر هذا التأويل أو تنفيه.

تمثيليًا، نجح غانم زرلي في تجسيد شخصية المغترب، فقدم أداءً متقنًا ومربكًا في آنٍ معًا، وتمكّن من التنقّل بخفّة بين الرمزية والتعبيرية، مع بناء متدرّج لسلم المشاعر والانفعالات، كما أحسن شحن المنطوق بشحنة عاطفية مكثفة، جعلت حضوره الإنساني على الشاشة مقنعًا وقادرًا على ملامسة المتلقي، دون أن يفقد في الوقت نفسه القدرة على مشاكسة الجمهور واستنفار الإحالات الذاتية داخل بنية العمل.

في النهاية، قدّم مهدي هميلي صياغة سينمائية جمالية حاول من خلالها تصوير قسوة الحياة التي يواجهها الإنسان داخل أنظمة رأسمالية لا تنظر إليه إلا بوصفه رقمًا في حسابات كبرى، أو ترسًا في آلة ضخمة، وقدّم المخرج رؤيته وتفسيره الخاص لمفهوم الاغتراب، في طرح يقترب مما صاغه كارل ماركس في تنظيراته الاقتصادية، ويتقاطع كذلك مع رؤية بتروفسكي، عبر لغة بصرية جريئة، ورغم أن هذه الصياغة الجمالية انحرفت أحيانًا عن الدور المخطط لها داخل البناء العام، لكنها نجحت في تقديم رؤية فنية ذات خصوصية، ومحاولة تستحق الإشادة لما حملته من بحث صادق عن المعنى وجرأة في الطرح.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة