ما جرى فى اليومين الأخيرين ليس عاديا على الإطلاق. وما كان يتوقّعه أشد المتشائمين بين المُغتبطين بالسبق، ولا مرّ على خاطر أكثر الناس تفاؤلاً من جُملة الغاضبين والمُستائين. رسالة رئاسية مفاجئة غيّرت الموازين، وقلبت الأوضاع رأسا على عقب؛ أو بالأحرى أعادتها إلى الاعتدال.
لم يخلُ استحقاق نيابى فى تاريخ مصر من ملاحظات، وكان المُعتاد أن تُتَداول الشبهات شعبيًّا، وتظل دون حد الإدانة الرسمية، على أن يخوض المتضرر رحلته القانونية بين الطعون والدعاوى القضائية، مُحتكمًا إلى عجزه عن إثبات الوقائع فى غالب الحالات، ومُكبّلاً باستيفاء الأُطر الإجرائية فى كثير منها.
والجديد؛ أن ما كان همسًا أخرجته الإدارة إلى العلن، وبادرت إلى ما كانت تتحرّج منه غيرها فى السابق؛ مُعلنةً قطيعتها الصريحة مع الخيال القديم.
لا أحزاب تُمثّل نظام الحُكم، ولا مستقلين أيضًا. صيغة اختيرت منذ بداية التجربة فى العام 2014، وقد لا تكون مثالية تمامًا؛ لكنها باتت عنوانًا عريضًا للمرحلة، ومُرتكزًا يُحتَدّ به على كل الذين يدّعون القُرب من الدولة، وكل مَن يُعلّقون على الفئة الأولى حبال الكيد والمُزايدة، أكان بمنطق المُعارضة التى تُفتّش عن غريم مباشر من الطبقة نفسها، أم بالاستهداف البنيوى المقصود لتركيبة ما بعد 30 يونيو.
وبهذا؛ فلا موالاة بالمعنى الدقيق، من مُنطلَق أنها تيّارات تتوحّد مع أفكار الإدارة السياسية بإرادتها، وكخيار خاصٍ لها، لا ينبع من علاقة عضوية أو يتأسس على التزام حزبى. ولا وجه لتكييف المعارضة صراعها مع هؤلاء المنافسين على صيغة الاشتباك مع السلطة؛ إنما الأوقع أنها مناكفات بين أطياف من خارج فضائها، وكلاهما يبدو مشدودا إلى إرث عتيق.
رفع السيسى الغطاء عن ممارسات تخص أصحابها، لا لرفض طرفٍ أو إسناد آخر؛ إنما دفاعا عن سلامة عملية الفرز والانتقاء مهما كانت مُخرجاتها؛ إذ لا مصلحة مع هذا أو مفسدة من ذاك. والغاية تحصين إرادة الناخبين؛ لأنهم الظهير الذى يستند إليه بالأصالة، لا بالوكالة ولا من بوابة التوصّل لكُتلة نيابية غالبة أو وازنة. أى أنه ينحاز للشارع؛ تأسيسا على أنه مُرتكن إليه بالأساس.
أُبطِلت الجولة الأولى من الانتخابات فى تسع عشرة دائرة موزّعة على سبع محافظات، بما يتخطى 27% من جُملة دوائر المرحلة، ويقترب بحساب النسبة من 77 مقعدا فرديا. المبادرة الرئاسية سابقة تاريخية، ومُعدّل الإلغاء قياسى ولم يحدث من قبل.
ربما تطلّع البعض لما هو أكبر، أو رأى آخرون مواطن عوار لم تُؤخَذ فى الحُسبان، وفى المقابل ثمّة مَن يبتئس من القرار أو يعُدّه مُتحاملا؛ لكنه فى الأخير خلاصة مشاهدات توفّرت لها موثوقية مُعتبرة، ومجموع إرادات ثلاثة: رأس السلطة، وهيئة الانتخابات وقانونها الناظم، والشارع الذى لم يكن راضيًا عن الحالة.
والحال؛ أن الحصيلة النهائية فاقت جُلّ التوقعات، وكان الكلام يتواتر بشأن دائرة هُنا وأُخرى هُناك؛ فإذا بالأمر يمتد إلى قُرابة ثُلث الدوائر. والمؤكّد أن وراء ذلك تفاصيل أكبر مِمّا تناقله الناس وشاع على منصات التواصل؛ فالرئيس لديه مُدخلات أوسع وأكثر اتصالاً بالظاهر والخفىّ، والهيئة حاضرة عند كل صندوق، ولعلّ هبّة الإصلاح امتدّت إلى ما كان يُكتَفَى فيه قبلاً بإبطال لجنة أو تجنيب مركز اقتراع بكامله.
وليس ذلك من باب المظنّة والأخذ بالشبهات؛ بقدر ما يُعبّر عن عزم جاد ورغبة فى الحزم. ودالّة الخطوة تتخطّى نطاق الاستدراك والتصويب فى مرحلة أو استحقاق بعينه، وتؤسِّس لفلسفة ومسالك سيُعتَدّ بها لاحقًا، ولن يُنزَل عنها عفوًا أو قصدًا. بدءًا من المرحلة الثانية التى تنطلق خلال أيام، وإلى كل ما يليها مُستقبلاً من فعاليات شبيهة.
تأسيس بالتجربة، وترسيم لمعالم المسار الذى لا حيود عنه. وعلى كل الآتين من ماضٍ تولّى أن يقطعوا صلتهم به، أو يحزموا حقائبهم ويرحلوا إلى أزمنتهم الغابرة. الهيئة تُكشّر عن أنيابها بكل ما لديها من صلاحيات ونصوص، ومن ورائها إرادة رئاسية تقول صراحة: إن كانت السلبيات واردة؛ فإنها ليست مقبولة، ولا تصالح معها على الإطلاق.
كان مؤتمر الهيئة بعد ساعتين فقط من بيان الرئيس تعبيرًا عن الحماسة والرغبة المُضمَرة؛ أكثر من كونه توقيعا عابرا بالحضور فى مشهد جديد. اغتنمت اللحظة كأنها كانت تتمناها، أو لاقتها على اشتياق مكتوم. ولم أستشعر أنها فوجئت بها؛ رغم ما بدا من بعض الارتباك فى الوقائع والتفاصيل.
وبين الاحتمالات أنها سعت إلى الاحتماء بالقيادة السياسية، ورفعت إلى مقامها ما تراه من مآخذ وملاحظات. صحيح أنها كيان مُستقلّ بنص الدستور، ومُحصّنة بذخيرة قانونية واضحة مهما احتملت التأويل؛ لكن مجال عملها لا يخلو من اعتبارات وضغوط؛ ولو معنوية على الأقل، بدءًا من الإرث والثقافة السياسية وتقاليد المُجتمع، وإلى الكُلفة المادية المتولّدة عن أى قرار إصلاحى تراه، لا سيما مع ميزانية الاستحقاق الضخمة أصلاً، وطبيعة الأعباء والالتزامات الاقتصادية على الدولة والمواطنين.
لا تقل تقديرات التشغيل واللوجستيات للاستحقاق البرلمانى عن أربعة إلى خمسة مليارات جنيه. ما يعنى أن إعادة ثُلث مرحلة منها تُترجَم إلى عشرات الملايين، وهو إن كان يقع فى صُلب المسؤوليات المنوطة بالهيئة إجرائيا وتنظيميا؛ فإنه يتطلّب قبولاً من القائمين على المالية العامة، وما من رأى أو توقيع بعد قول الرئيس.
وإلى ذلك؛ فالإلغاء يحمل فى ثناياه عقابًا ثقيلاً للمُخالفين أيضًا، ليس بالابتئاس بعد السرور، ولا بالعودة إلى الحملات وأجواء المنافسة بعدما تصوّروا أنهم اقتربوا من القبة النيابية، ولكن لأنهم خسروا ما سدّدوه فى مخالفاتهم، ولن يكون بمقدورهم أن يُكرروه؛ ولو امتلكوا الملاءة المالية الكافية. فكأنهم تحمّلوا أعباء الوفرة مرّة بالإنفاق، ثم يختبرونها مُجدّدًا مشمولة بالشبهة والوصم، وأهم منهما بالعجز عن الاحتماء بها فى جولة التصحيح.
لكن ما يستوجب النظر هُنا؛ أن مخالفات الدعاية والبذخ والاسترضاء وغيرها، نابعة بالأساس من سوء الاختيار. إذ لو كانت للأحزاب ومُرشحيها قواعد جماهيرية صلبة؛ ما اضطرّت إلى تعويض نقائصها بالإفراط فيما يقودها إلى مُخالفة الضوابط والإجراءات.
وكذلك حال المُستقلين؛ وبعضهم لا يعرفون دوائرهم إلا فى المواسم، ولا رصيد حقيقيا لهم على الأرض. ويصعُب استبعاد المعارضة أيضًا؛ أقلّه من زاوية الهشاشة الظاهرة، وغياب البدائل الثقيلة، وعدم القدرة على المُزاحمة الجادة والمُزعجة.
وعليه؛ فإن المسار الذى ابتدأته رسالة رئيس الجمهورية لا يتوقّف عند الانتخابات كعملية إجرائية، بل ينسحب على كل تفاصيلها من بادئة التنظيم، وآليات الفرز والانتقاء داخليا، وطبيعة الساحة الحزبية وأنماط عملها، وفيها صخب يفوق أحجامها جميعًا، ومثالب تطغى على دولايبها الداخلية؛ فتنعكس بالتبعية على خروجاتها إلى المجال العام.
لا معنى لأن يكون لدينا أكثر من 100 حزب؛ ثم لا نجد إلا ثلاثة أو أربعة تتنافس فى كل دائرة. وكثير منها تتشابه فى الأفكار والبرامج؛ وأكثر تكاد تتطابق فى الفردانية والاحتكار، ولا تقترف تحت سقفها تلك الديمقراطية التى تتطلّع إليها تحت سقف الوطن. ما يفتح الباب وجوبًا للبحث فى الأصالة والجدية، وترشيد النسخ والتكرار، والعمل على الدمج أو تجميد التراخيص؛ تحت شروط قانونية يجب أن تكون أكثر وضوحًا وتشدُّدًا.
وعلى كل حزب أن يُطلق عملية مُراجعة شاملة لأدائه فى الاستحقاق الحالى وسوابقه، وفى الساحة السياسية بوجه عام. العضوية والمقرات النشطة والفعاليات وورش التأهيل ومدارس الكادر، والموارد والنفقات، والشبهات التى تحيق بأى عضو، أو يتسبّب فى إلصاقها بالكيان جرّاء الخفة والاستسهال وسوء السلوك.
عُرِفت الدوائر واللجان محل الجدل، ويسهل التوصّل إلى المُخالفين وطبيعة ما ارتكبوه من مُخالفات. المُرشّح المتجاوز يتعيّن إخضاعه للمُساءلة الحزبية، واتخاذ إجراءات صارمة بحقّه ولو ربح الجولة المُعادة، كما يتوجّب تتبّع رحلة صعوده داخل الحزب، وكواليس منحه بطاقة الترشح، ومُحاسبة مسؤولى التنظيم والعضوية ولجان الانتخاب مِمّن اختاروه. الإلغاء بمثابة المحاكمة والإدانة عمليًّا؛ إنما لا يصح أدبيًّا أن يبقى المخالفون ومن شاركوهم المُخالفات فى أماكنهم.
على أن مأمونية العبور بالتجاوزات تنطوى على مخاطر تكرارها؛ ولا يردع عن ذلك الخوف بإبطال النتائج أو إعادة الانتخابات. ما يُوجب النظر فى آليات المحاسبة المتوافرة لدى الهيئة الوطنية، وضبط النصوص القانونية أو تشديدها، بما يسمح بالاستبعاد والشطب وتحريك دعاوى مدنية أو جنائية بحق الأفراد والكيانات على السواء.
المؤكد أن المرحلة الثانية لن تكون كسابقتها، وأن الهيئة الوطنية صارت أكثر جرأة وإقدامًا تحت المظلة الرئاسية، ويعرف المرشّحون أن المُخالفات لن تمرّ، كما أن الناخبين عاينوا سلوكًا غير معهودًا فى العملية الانتخابية، بما أتوقع أن ينعكس على نسب الإقبال والمشاركة فى المحافظات الثلاث عشرة بالأسبوع المقبل، بل وفى سبع محافظات تضم الدوائر المُلغاة؛ بما يتجاوز ما سجّلته فى الجولة السابقة.
الحسم والشفافية رسالة موجهة للشارع، والزخم وكثافة الناخبين أوثق الضمانات لضبط العملية كلها، ولسدّ الثغرات ومواطن القصور؛ شريطة أن يترافق مع ذلك تجديد للحالة السياسية بكاملها، وإعادة تأهيل الأحزاب لذواتها من الداخل، قاعديا وإلى أعلى مستوياتها، وهو ما لا يغنى عنه الانضباط وعدالة المنافسة، ولا يُحتَج على الضعف فيه بالخلل والاعتلالات الموروثة.
كل دائرة مُلغاة درس بليغ، وكل مرشّح ارتكب مُخالفة؛ سيكون عبرة لغيره إذا ما عاقبوه الناخبون فى فرصتهم الثانية. والأهم أنه سيُجبَر على أن يخوض السباق بإمكاناته الحقيقية، ومن دون استناد إلى أدوات تخصم من العدالة وتُشوّه المنافسة من مراكز مُتكافئة.
تستحق مؤسسة الرئاسة عظيم التحية، الرئيس أوّلاً، ومعاونوه مِمّن تلقّوا الإفادات وأحسنوا عرضها على القيادة برؤية واضحة مُتجرّدة، وحلول واقتراحات تحقق غاية المُمكن تحت سقف الدستور والقانون. لم يستدركوا على الهيئة؛ إنما آزروها وصلّبوا ظهرها. وأسدوا خدمة جليلة للمرشّحين أنفسهم؛ لأنه لا قيمة للفوز إن لم تكن المنافسة شريفة، ولا فائدة من مداواة الجرح إن لم تكن على نظافة.
الكفاءة أثمن وأهم ما تحتاجه مصر، والجدارة لصيقة بشرط الاقتدار، لا فى الإمكانيات فحسب؛ ولكن فى الاستحقاق وطريقة الوصول. وما فى الانتخابات يصحّ مع غيرها، ويفتح الباب لمراجعة شاملة للفاعلين فى كل المواقع، وإعادة الاعتبار للموهبة والمهارة وحُسن التأهيل ونزاهة القصد والسلوك.
الإخفاق عدوى، والإنجاز أيضًا ينتقل بين الناس ويتفشّى عندما يتوحّدون على شعور أو يتكلّمون لغةً واحدة. الانضباط فى جانب ينعكس على غيره، وردم الهُوّة فى ملف يرفع الأساسات لملف آخر. جودة الانتخابات ستترك أثرًا فى المتفاعلين معها جميعًا، وعافية الأحزاب ستتردّد أصداؤها فى بقية كيانات المُجتمع المدنى، وكلما ترقّى مُستحق؛ تراكمت الحوافز، وجَدّ الطامحون واندلعت شرارة الاجتهاد والإتقان فى نفوسهم.
لا دليل أبلغ من حالة الفخر الوطنى الهادرة مع احتفالية المتحف الكبير فى فاتحة نوفمبر، وقبلها قمّة شرم الشيخ للسلام، والنجاح فى فرض الرؤية المصرية لوقف الحرب على غزّة دون تهجير أو تصفية للقضية. وتلك الإنجازات وغيرها ليست وليدة المصادفة؛ إنما نتاج جهد صادق وعمل أمين، ومواهب وطاقات بشرية وُضِعَت فى أماكنها الصحيحة، وعن جدارة واستحقاق.
وإذا كان الرئيس تدخّل لإنقاذ الانتخابات؛ فقد وجّه قبل شهور بتطوير الإعلام، وأطلق حوارًا وطنيًّا أنجز فى مرحلته الأولى، وما يزال قائمًا مع إرادة واضحة لتحويله إلى مؤسسة أصيلة أو شبه دائمة.
جهود ملموسة فى الإصلاح الإدارى والاقتصادى، وعلى أصعدة التدريب وصقل المهارات وتمكين الشباب والنساء والفئات المهمشة. فارق السرعات كبير، ويد السيسى سبّاقة على جُلّ الأيدى داخل المؤسسات وخارجها.
وعلى الجميع أن يستلهموا منه الحماسة والإقدام وحُسن التخطيط والتدبير، وأن يكونوا على قدر الآمال التى يُبشّر بها، وأن يتمثّلوا به فى عدم الصمت على نقيصة، وعدم القبول بما يقل عن الطموح أو لا يليق بما يستحقه المصريون.