فى ذكرى التجليس الـ13.. البابا تواضروس رجل بنى بيته على الصخر.. مسيرة بطريرك تنسج خيوط الحكمة والمحبة وإنجازات شكلت ملامح عهد جديد داخل الكنيسة.. خدمات إجتماعية بروح الإنجيل وعظات أسبوعية متنقلة بين الكنائس

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025 09:30 م
فى ذكرى التجليس الـ13.. البابا تواضروس رجل بنى بيته على الصخر.. مسيرة بطريرك تنسج خيوط الحكمة والمحبة وإنجازات شكلت ملامح عهد جديد داخل الكنيسة.. خدمات إجتماعية بروح الإنجيل وعظات أسبوعية متنقلة بين الكنائس ذكرى تجليس البابا تواضروس الثانى

كتب: محمد الأحمدى و بتول عصام

حين يتأمل المرء مسيرة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يكتشف أنها لم تعرف يومًا فراغًا فى القيادة الروحية، بل كانت دائمًا تُهيئ فى صمت من يحمل الرسالة ويكمل المسيرة.

 

وفى صباح هادئ من صباحات الكاتدرائية المرقسية بالعباسية قبل 13 عامًا، وقف التاريخ عند لحظة فارقة حين تجلَّس الأنبا تواضروس الثانى بطريركًا للكرازة المرقسية، ليبدأ عهدًا جديدًا داخل الكنيسة وفى قلب المجتمع المصرى، لم يكن المشهد مجرد احتفال كنسى، بل كان انتقالًا روحيًا وإنسانيًا وسياسيًا فى آن واحد، لأن الرجل الذى جلس على الكرسى المرقسى كان يحمل ملامح مختلفة، حيث عقل علمى، قلب رهبانى، رؤية إصلاحية، هدوء يخفى خلفه قوة وصلابة نادرة.

 

مع ذكرى التجليس الـ13 التى تتزامن مع اليوم، الثلاثاء، يعود السؤال الذى يشغل الكثيرين داخل مصر وخارجها.. كيف استطاع البابا تواضروس الثانى أن يصبح أحد أبرز الشخصيات الدينية تأثيرًا فى الشرق الأوسط؟ ولعل الإجابة تكمن فى هذا المزيج الفريد بين الحكمة والصبر والمعرفة العميقة بالتاريخ والواقع، وبين إيمان راسخ بأن الكنيسة كيان حى يُدار بالمحبة قبل أى شىء آخر.

56533-البابا-تواضروس-الثانى-(3)
قداسة البابا تواضروس الثانى

ولعل البابا تواضروس، بحكمته وشخصيته الهادئة، يُجسد ما قال السيد المسيح فى ختام الموعظة على الجبل، التى تُعد من أشهر الخطابات التعليمية التى ألقاها، حتى إنها تُعد جوهر التعاليم الأخلاقية والروحية فى المسيحية، فالبعض يراها «دستور الحياة المسيحية»، حيث قال: «فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِى هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ.. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَضَرَبَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّ أَسَاسَهُ كَانَ عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِى هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَضَرَبَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيما».

 

القرعة الهيكلية التى كتبت القدر

وفى الرابع من نوفمبر 2012، توجهت الأنظار إلى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، حيث تقام طقوس القرعة الهيكلية، ذلك التقليد الفريد الذى يربط الكنيسة القبطية بجذورها الأولى، وبعد أسابيع من التزكيات، ودراسة سير المرشحين، والاستماع إلى رأى المجمع المقدس، وصلت القائمة النهائية إلى 3 أسماء فقط.


ووسط مشاعر الرهبة، تقدم أكثر من 500 طفل ليتم اختيار واحد منهم، لأن القرعة- وفق التقليد- يجب أن يجريها طفل عمره 6 سنوات، لا يرى شيئًا، ولا يعرف الأسماء، ليبقى الاختيار خارج إرادة البشر. كان الطفل بيشوى جرجس سعد هو المختار، ليقف أمام المذبح معصوب العينين، ثم تمتد يداه الصغيرة لتسحب الورقة التى تحمل اسم البطريرك الجديد. لحظة بكت فيها العيون وانطلقت فيها صلوات الشكر، فقد جاء اسم الأنبا تواضروس ليمثل بداية صفحة جديدة فى تاريخ الكنيسة.

اختيار القرعة الإلهية
اختيار القرعة الإلهية

قداسة البابا تواضروس الثانى

 
يروى قداسته تلك اللحظة ببساطة إنسانية، خلال حوار سابق له مع «اليوم السابع» قائلا: «ما حدش فينا بيرشح نفسه، ولا حد بيعمل دعاية القرعة، هى صوت ربنا ويومها اتقدم 500 طفل، اختاروا 12 ومنهم اختاروا واحد.. غمّوا عينيه، ومد إيده، والاسم اللى خرج هو اللى يبقى البطريرك.. تانى يوم كان عيد ميلادى، ولما بلغونى إن اسمى هو اللى اتسحب حسيت بمسؤولية كبيرة جدًا، لأن الطريق مش سهل، لكن ربنا هو اللى بيدى القوة».
على خطى مارمرقس


ومنذ أن دخل القديس مارمرقس أرض مصر فى القرن الأول، لم تكن الكنيسة مجرد بناء، بل كانت بيتًا مفتوحًا لكل محتاج، ومدرسة للتعليم والإيمان، ومنارة روحية لمنطقة بأكملها. هذا الإرث الضخم انتقل إلى البابا تواضروس الثانى، ليكون حلقة جديدة فى سلسلة البطريركية الأطول فى تاريخ المسيحية.

 

وفى سنواته الأولى، حرص قداسته على إعادة تنظيم الخدمة وتوسيع العمل الرعوى، فشهدت مصر تدشين مئات الكنائس الجديدة، وترميم كنائس أثرية، وإنشاء إيبارشيات، واستحداث خدمات لم تكن موجودة من قبل، وبالنسبة لخارج مصر، فامتدت أفرع الكنيسة القبطية إلى عشرات الدول، لتغدو واحدة من أسرع الكنائس انتشارًا عالميًا.


يؤكد المركز الإعلامى للكنيسة أن البابا يسير على خطى مارمرقس، الذى فتح بيته للغريب والفقير والهارب، وأن الكنيسة فى عهده استعادت دورها كحاضنة للمجتمع، لا مجرد مؤسسة دينية.

 

خدمات اجتماعية بروح الإنجيل

ويتميز البابا تواضروس بقدرة نادرة على إدارة الأزمات بهدوء، ويتحدث ببساطة مهما كانت تعقيدات الموقف، ويعتمد على الاستماع قبل القرار، وعلى الصلاة قبل التحرك.

البابا تواضروس الثانى (2)
البابا تواضروس الثانى 

ويقول المقربون منه إنه لا يرفع صوته أبدًا، وأنه يرى كل شخص من زاوية إنسانية، ويؤمن بأن المحبة أعمق من السلطة، وأن القيادة الحقيقية هى التى تُمارس من القلب لا من الكرسى.


وفى فكر البابا تواضروس الثانى، لا ينفصل الإيمان عن العمل الاجتماعى، وعلى هذا المبدأ قامت عدة مبادرات غيرت شكل الخدمة داخل الكنيسة.


جاءت خدمة «أخوة الرب» لتعيد تعريف كيفية التعامل مع المحتاجين، فبدلًا من تقديم المساعدات بصورة عشوائية، أصبح هناك نظام شامل يضمن الكرامة والاستدامة.


أما خدمة «بنت الملك» فكانت خطوة رائدة لرعاية الفتيات ومساعدتهن فى الزواج، ليس فقط ماديًا، بل نفسيًا وروحيًا.
ظهرت مبادرات لرعاية ذوى الاحتياجات الخاصة، حيث استقبل قداسته مجموعات من الصم والبكم وافتتح مراكز متخصصة لهم، ما جعل الكنيسة نموذجًا للاندماج الاجتماعى.


كانت هذه الخدمات جزءًا من رؤية أوسع ترى أن الكنيسة ليست مؤسسة للتعليم الروحى فقط، بل بيت يسع الجميع، ويواجه آلام الناس قبل أن يمنحهم التعزية.

مراسم-قداس-وتهنئة-رجال-الدولة-بعيد-الميلاد-المجيد-تصوير-مرقص-اسحاق-6-1-2025-(38)

من الصيدلة إلى الرهبنة
 

البابا تواضروس نشأ فى دمنهور، فى أسرة محبة للعلم، وكان أحد المتفوقين فى دراسته حتى حصل على بكالوريوس الصيدلة عام 1975.


لم يكن العلم بالنسبة له مجرد دراسة، بل طريقة حياة، ولذلك حصل عام 1979 على دبلومة الصيدلة الصناعية، ثم درس اللاهوت عام 1983، قبل أن يسافر إلى إنجلترا عام 1985 للحصول على زمالة الصحة العالمية من مستشفى تشرشل بأكسفورد.. هذه الخلفية العلمية صنعت لديه عقلًا منهجيًا قادرًا على التنظيم، وهو ما ظهر لاحقًا فى إدارة الكنيسة، أما الروحانية فجاءت حين ذهب إلى الرهبنة عام 1986، حيث تعلم الصمت، والخدمة، والاتساع الداخلى.

 

وفى عام 1999 درس الإدارة الكنسية فى سنغافورة، وهو ما جعله يمتلك واحدًا من أكثر العقول الإدارية تطورًا داخل الكنيسة المعاصرة.


ورغم انشغاله بالقيادة، ألّف أكثر من 34 كتابًا فى الروحيات والتأمل والكتاب المقدس والخدمة، وألقى عشرات المحاضرات فى مصر والعالم، ليُعرف بأنه بطريرك قارئ ومفكر قبل أن يكون مسؤولًا.

قداسة البابا تواضروس الثانى فى كلية الصيدلة
قداسة البابا تواضروس الثانى فى كلية الصيدلة

إنجازات شكّلت ملامح عهد جديد داخل الكنيسة

ومن أبرز التحولات التى حدثت فى عهده: العظة الأسبوعية التى أصبحت متنقلة بين الكنائس، و تأسيس المركز الإعلامى للكنيسة وتعيين متحدث رسمى.
 
 
صدور قانون بناء الكنائس عام 2016، وافتتاح كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية 2019، وافتتاح المكتبة البابوية المركزية 2019، وإطلاق قناة COC الرقمية عام 2020، وتدشين الكاتدرائية المرقسية بعد تطويرها عام 2018، وإطلاق الموقع الرسمى للكنيسة عام 2021.
 
 
وكانت هذه الخطوات جزءًا من رؤية تجعل الكنيسة معاصرة دون أن تفقد هويتها، ورائدة دون أن تتخلى عن جذورها.
 
قداسة البابا تواضروس الثانى
قداسة البابا تواضروس الثانى

تأثيرات إنسانية شكلت ملامح شخصيته

ويرجع البابا تواضروس الكثير من تكوينه الروحى والإنسانى إلى معلمته «أبلة أنجيل» التى ظلت تحبه كأنه تلميذ صغير حتى قبل وفاتها، كما تأثر بكاهن كنيسته «أبونا ميخائيل» ورئيس ديره وأصدقائه فى دمنهور، لكنه يعتبر أن أعظم تأثيرين فى حياته «البابا كيرلس السادس، الذى لم يره لكنه أحب بساطته وقداسته، والبابا شنودة الثالث، الذى عاصر نصف القرن من خدمته وتأثر بكتاباته وشعره وعمق تعليمه» هذه التأثيرات صنعت منه بطريركًا يجمع بين روحانية كيرلس السادس وفكر شنودة الثالث.

 

احتفال التجليس.. قداس يتجدد كل عام

أعلن المركز الإعلامى للكنيسة أن الاحتفال هذا العام سيقام فى مركز لوجوس البابوى بوادى النطرون، حيث يجتمع المجمع المقدس والوفود الكنسية، ولا يعتبر هذا القداس مجرد ذكرى، بل محطة سنوية للتأمل فى معانى البطريركية والخدمة، وفرصة للشعب ليشكر الله على قيادة تحاول أن تكون أمينة قدر المستطاع.

 

البابا الإنسان.. مدرسة فى الهدوء والحكمة

13 عشر عامًا مرت منذ أن سحب الطفل بيشوى ورقة تحمل اسم الأنبا تواضروس، واليوم يقف البابا تواضروس الثانى كشخصية محورية أعادت تشكيل العمل الكنسى، وبنت جسورًا مع المجتمع والدولة، وقدمت نموذجًا للقيادة الهادئة التى تعمل بصمت، وتترك أثرًا عميقًا لا يرتبط بالضجيج، بل بالثبات والاستمرارية.


ومع حلول 18 نوفمبر، لا تحتفل الكنيسة بذكرى تجليسه فقط، بل بمسيرة قائد آمن بأن الكنيسة بيت كبير، وأن المحبة هى أعظم ما يمكن أن يقدمه البطريرك لشعبه ووطنه.

قداسة البابا تواضروس الثانى خلال فترة الرهبنة
قداسة البابا تواضروس الثانى خلال فترة الرهبنة

نوفمبر بين صرامة «شنودة» وحكمة «تواضروس»

يُعتبر شهر نوفمبر من الشهور المميزة فى ذاكرة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إذ يزدان بذكرتين متتاليتين لبطريركين رسخا بصمتهما فى التاريخ الكنسى والوطنى، البابا شنودة الثالث الذى جُلس على الكرسى البابوى فى 14 نوفمبر 1971 ليصبح البطريرك رقم 117، والبابا تواضروس الثانى الذى تبوأ الكرسى المرقسى فى 18 نوفمبر 2012 كبطريرك رقم 118.


ورغم أن كليهما حمل همّ الكنيسة وخدمها بنفس الإخلاص، فإن لكل واحد منهما أسلوبه الخاص فى القيادة الكنسية والإدارة الروحية، يعكس شخصيته وظروف عصره، ويعبر عن رؤيته فى خدمة الإيمان والوطن.


يُعد البابا شنودة الثالث واحدًا من أكثر باباوات الكنيسة القبطية حضورًا وتأثيرًا فى التاريخ الحديث، فقد تميزت قيادته بقدر كبير من الانضباط الحازم فى الإدارة الكنسية، والقدرة على الإمساك بكل خيوط العمل داخل الكنيسة بدقة ومتابعة شخصية، وكان البابا شنودة يؤمن بأن الكنيسة يجب أن تُدار بعقلية الأب القائد، فكان قريبًا من التفاصيل اليومية، متابعًا للآباء الكهنة والأساقفة، محددًا لكل منهم مسؤولياته بدقة.


وبعد رحيل «شنودة»، واجهت الكنيسة تحديات جديدة فى مجتمع سريع التغير، فكان اختيار البابا تواضروس الثانى عام 2012 إيذانًا بمرحلة مختلفة فى أسلوب القيادة الكنسية.

قداسة البابا تواضروس الثانى خلال رسامته بيد البابا شنودة
قداسة البابا تواضروس الثانى خلال رسامته بيد البابا شنودة
ويحرص «تواضروس» على الحضور الميدانى فى مختلف الإيبارشيات والكنائس، متنقّلًا بين المحافظات والكنائس فى زيارات رعوية مستمرة، بدلا من الاكتفاء بمكان ثابت للعظة الأسبوعية. كما يعتمد على استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة فى التواصل مع الشعب، فبدلا من الأسئلة المباشرة من الحضور كما كان فى عهد البابا شنودة، أصبحت الأسئلة تُجمع عبر الموقع الرسمى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ليُجيب عنها فى عظته.


ومن أبرز سمات البابا تواضروس أنه أعاد رسم صورة الكنيسة فى المجال العام باعتبارها شريكًا وطنيًا فاعلًا فى بناء الدولة، مؤكدًا أن الكنيسة جزء من نسيج الوطن ليست كيانًا منفصلًا عنه.


ففى أحلك الفترات السياسية والأمنية التى مرت بها مصر عقب 2013، كان صوته داعمًا للاستقرار ووحدة الصف، وشارك فى صياغة مواقف وطنية حكيمة حافظت على صورة الكنيسة كبيت سلام وطنى.


رغم اختلاف أسلوب كل بطريرك فى الإدارة والتواصل، فإنهما يشتركان فى رؤية جوهرية، أن الكنيسة يجب أن تبقى منارة إيمان ووحدة، ليست منبرًا للخلاف أو الانقسام.


فبينما كان البابا شنودة يؤمن بأن الصرامة فى التنظيم تحفظ كيان الكنيسة، يرى البابا تواضروس أن التنوع فى الأسلوب لا يتعارضان مع ثبات العقيدة.
وفى النهاية، تبقى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مستفيدة من التنوع فى الخبرة والأسلوب بين جيلين من القيادة، يجسدان معًا صورة الأب الراعى والمعلم الخادم، الذى يسير بشعبه نحو الإيمان الراسخ والوطن الآمن.

 
p
 
 



أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب