فى اللحظة التى تتجه فيها الأنظار نحو النتائج الرسمية للمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، جاء توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسى "التاريخى" إلى الهيئة الوطنية للانتخابات ليعيد ترتيب المشهد، ويكشف عن رؤية أكثر عمقًا مما قد يبدو على السطح، فقد بدا واضحًا أن الرئيس لم يكن بصدد إصدار بيان عابر، بل كان يضع معيارًا جديدًا لسلامة الإجراءات ونزاهة العملية الانتخابية، ويبعث برسالة صريحة إلى الجميع، بأن مصر لا تكتفى بإجراء انتخابات، بل تسعى لإتمامها بأعلى درجات الدقة والشفافية.
وإذا كان التوجيه فى ظاهره يركز على «التدقيق التام» و«إظهار إرادة الناخبين الحقيقية» و«عدم التردد فى اتخاذ القرار المناسب»، فإن جوهره يحمل ما هو أبعد من ذلك بكثير، فهذه ليست مجرد مفردات، بل قواعد صارمة فى لحظة دقيقة، تؤكد أن الرئيس يتعامل مع العملية الانتخابية باعتبارها ركنًا أساسيًا من أركان الثقة العامة، لا مجرد استحقاق سياسى روتينى.
حين يشير رئيس الجمهورية، إلى ضرورة فحص الطعون بدقة، ومراجعة ما حدث فى بعض اللجان، فهو لا يوجه رسالة للهيئة فقط، بل خطابًا للشعب المصرى بأسره، مفاده أن الدولة ترى وتتابع وتتحرك، وأن صوت المواطن لا يمكن تجاهله أو التلاعب به تحت أى ظرف.
وما لفت نظرى، وربما لفت نظر الكثيرين، أن التوجيه جاء قبل ساعات قليلة من إعلان النتيجة، وهذه النقطة تحديدًا تستحق التوقف، فالتوقيت هنا ليس تفصيلًا، بل عنصرًا جوهريًا يضيف للتوجيه ثقله، ومعناه أن يصدر الرئيس هذا التوجيه فى لحظة إعلان النتائج يعنى أن القيادة ليست بعيدة عن التفاصيل، وليست فى انتظار اكتمال المرحلة لتقييمها، بل تتدخل فى اللحظة التى يمكن فيها تصحيح المسار قبل أن تترسخ أى أخطاء أو يتحول أى خلاف إلى صراع مفتوح.
أرى أن نهج الرئيس السيسى، يعكس أسلوبًا إداريًا يعتمد على المبادرة والحسم، لا على ردة الفعل، ما يؤكد أن الدولة تريد أن تطمئن المواطنين قبل أن تطمئن العالم الخارجى، وأنها تدرك حساسية هذه المرحلة وما يمكن أن ينتج عنها من تساؤلات أو مخاوف.
والحقيقة أن التوجيه، رغم طابعه الرسمى، يحمل مضمونًا إنسانيًا واجتماعيًا مهمًا: رسالة طمأنة حقيقية للشعب المصرى، ففى بلد يأتى فيه كل استحقاق انتخابى وسط جدل واسع، وشائعات لا تتوقف، وانتقادات من الداخل والخارج، يحتاج المواطن إلى أن يسمع كلامًا واضحًا وصريحًا يؤكد أن إرادته لن تُهدر، وهو ما فعله الرئيس عندما أشار إلى ضرورة التعامل مع الطعون بجدية، ومراجعة ما يثار من تجاوزات، وإعلان ما يُتخذ من إجراءات بشفافية.
كل هذه رسائل لا تكتفى بتعزيز الانضباط المؤسسى، بل تستهدف أيضًا تهدئة التوترات وقطع الطريق على أى محاولات للتشكيك أو التشويش، ولا يمكن تجاهل أن التوجيه يحمل بعدًا خارجيًا مهمًا أيضًا، فالمجتمع الدولى يتابع الانتخابات فى مصر بدقة، ويقيس مدى التزام الدولة بالقواعد الديمقراطية من خلال طريقة تعاملها مع الطعون والمخالفات، لذا فإن التوجيه يمثل خطابًا عالميًا يقول: إن مصر دولة تحترم إرادة شعبها، وتدقق فى كل صوت، ولا تتردد فى مراجعة نفسها إذا اقتضى الأمر.
القدرة على التصحيح الذاتى هو ما يميز الدول التى تبنى مؤسسات قوية وثقة صلبة بين القيادة والمجتمع، ومن هذه الزاوية، فإن التوجيه لا يخدم فقط المشهد الداخلى، بل يعزز أيضًا صورة مصر فى الخارج، ويؤكد أنها منفتحة على النقد ومستعدة للتطوير، وأنها تتعامل مع الانتخاب لا كإجراء شكلى بل كأداة لتجديد شرعية الدولة وتعزيز الاستقرار.
وإذا انتقلنا إلى البعد العملى للتوجيه، نجد أنه لا يترك أى مساحة رمادية أو فجوة يمكن أن تتسلل منها الشكوك، فعندما يطالب الرئيس بأن يحصل كل مندوب مرشح على نسخة رسمية من محضر الفرز، فهو يحمى العملية الانتخابية من الداخل، ويضع المرشحين أنفسهم فى موقع المراقب لأنفسهم، وعندما يشدد على إعلان الإجراءات المتخذة ضد المخالفات، فهو يضع قاعدة ذهبية تؤكد أن كل ما يمس العملية الانتخابية يجب أن يعلن للناس، وبوضوح لا يحتمل التأويل.
هذه الإجراءات ليست فقط ضمانة لحماية الانتخابات، بل هى أيضًا خطوة لتثبيت جسور الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، لكن المعنى الأكبر، والذى أراه شخصيًا أهم ما فى التوجيه، هو أن القيادة تتابع المشهد العام بدقة، وتقرأ ما يقال وما يكتب، وتراجع كل التفاصيل وبكل دقة وموضوعية، وأنها لا تتدخل أيضا إلا بـ "القرار الرشيد".
هذا النوع من الإدارة يعكس توازنًا حساسًا بين ترك الهيئات المستقلة تمارس عملها بحرية كاملة، وبين متابعة الدولة للمشهد واتخاذ ما يلزم لضمان سلامته. وهو توازن ليس سهلًا، ولا يتحقق إلا فى دولة لديها قدر كاف من الثقة بالنفس، وقادرة على أن تُشرك مؤسساتها فى صنع القرار دون أن تتدخل فى جوهره السياسى.
إن توجيه الرئيس للهيئة الوطنية للانتخابات ليس مجرد لحظة سياسية، بل نقطة تحول تكشف عن تطور فى طريقة إدارة الدولة للاستحقاقات الديمقراطية.. إنه إعلان بأن مصر تدخل مرحلة جديدة تتعامل فيها مع العملية الانتخابية باعتبارها مسؤولية وطنية جماعية، وأن أى تجاوز -مهما بدا بسيطًا- سيواجه بحسم، وأن أى شك -مهما كان صغيرًا- يستوجب التدقيق.
هذه هى الروح التى يحتاجها المواطن الآن، وهى الرسالة التى تجعل الناس يشعرون أن الدولة تحترمهم وتحترم أصواتهم، وأن الانتخابات ليست مجرد صندوق، بل رسالة احترام متبادل بين الشعب والقيادة.
بهذا التوجيه، وضعت الدولة معيارًا جديدًا يجب أن يستمر ويتطور، وأن تكون الانتخابات مرآة حقيقية لإرادة المصريين، وأن تكون الشفافية قاعدة لا استثناء، وأن تكون القرارات السريعة والحكيمة جزءًا من آلية حماية الإرادة الشعبية، ولعل أهم ما يميّز هذه اللحظة أن الدولة لم تنتظر أن يتضخم الجدل أو يتسع الخلاف، بل تحركت حين كان التحرك ضرورة، وفى الوقت الذى يصنع الفارق.
إن ما حدث ليس مجرد خطوة إجرائية، بل خطوة سياسية وأخلاقية تؤسس لمرحلة جديدة تُبنى فيها الثقة على أسس متينة، ولعل الأيام القادمة تكشف أن هذا التوجيه لم يكن نهاية لقضية، بل بداية لنهج جديد يعزز الديمقراطية، ويكرس قيم الدولة الحديثة، ويعيد الاعتبار لصوت المواطن باعتباره حجر الأساس فى أى عملية سياسية حقيقية.