تأتي ذكرى استشهاد المقدم محمد مبروك محمّلة بمشاعر يصعب وصفها، فالحكاية ليست مجرد سطور في سجل الأمن الوطنى، ولا قصة ضابط واجه الإرهاب بشجاعة، إنها حكاية رجل عاش للمبدأ وحده، اختار طريق الحقيقة رغم إدراكه أن هذا الطريق سينتهي عند نقطة لا عودة منها.
محمد مبروك لم يكن بطلًا من ورق ولا شخصية درامية تخضع للخيال، بل كان إنسانًا يعرفه زملاؤه بابتسامة هادئة لا تخفى حزمًا واضحًا، ويعرفه المصريون اليوم كإحدى أيقونات المواجهة مع تنظيم أراد إسكات الحقيقة إلى الأبد، رحل مبروك، لكنه ترك إرثًا يتجدد كلما تذكّر المصريون حجم ما واجهته البلاد في تلك السنوات العصيبة.
ميلاد ضابط استثنائي
وُلد الشهيد المقدم محمد مبروك عام 1974، في أسرة مصرية بسيطة غرست في قلبه قيم الانضباط والعمل والمسؤولية، كان شغفه بالعمل الأمني واضحًا منذ صغره، وهو ما جعله يسعى للالتحاق بكلية الشرطة، التي تخرج فيها عام 1995، وبمجرد تخرجه، بدأ رحلته المهنية داخل جهاز أمن الدولة عام 1997، وهو الجهاز الذي وجد فيه حياته ورسالة عمره.
على مدار سنوات خدمته، كان "مبروك" نموذجًا لضابط يؤمن بأن الأمن ليس وظيفة وإنما التزام وطني، عمله لم يكن روتينيًا، بل كان يتمتع بقدرة عالية على التحليل والمتابعة وربط الخيوط، وهو ما جعله سريعًا ضمن الدوائر الأكثر حساسية في الجهاز.
في قلب الملفات الأخطر
قضية التخابر.. صوت الحقيقة الذي كشف مخطط الإخوان
لمع اسم المقدم محمد مبروك بصورة واسعة عندما تقدم بشهادته في قضية التخابر الشهيرة، والتي شكّلت واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بأمن البلاد خلال العقد الأخير، وكان مبروك الشاهد الرئيسي، ويمتلك وثائق وأدلة قاطعة كشفت حجم التواصل والتنسيق بين قيادات تنظيم الإخوان وعناصر خارجية.
لم يكن دور مبروك مجرد نقل للمعلومات، بل كان يقدم رؤية واضحة لتسلسل الأحداث ودوائر الاتصال، وهو ما جعل شهادته حجر الزاوية في القضية، وبمجرد ظهور صوته في أوراق التحقيق، أدركت الجماعة أنه يمثل خطرًا وجوديًا على مخططاتها.
ملف الهروب من وادي النطرون
لم يتوقف دوره عند كشف التخابر، بل تولى أيضًا الإشراف على التحريات المتعلقة بقضية هروب محمد مرسي وآخرين من سجن وادي النطرون.
وقد كشفت تلك التحريات الطريقة التي استُخدمت خلالها الفوضى في تفكيك مؤسسات الدولة خلال أحداث 2011، وكان مبروك قادرًا على تفكيك الروايات، وإعادة بناء الحقيقة استنادًا إلى وقائع لا تقبل التشكيك.
أحداث مكتب الإرشاد وتحليل مشهد الفوضى
وتوسع نشاطه ليشمل ملفات أخرى، من بينها أحداث مكتب الإرشاد بالمقطم، وعدد من القضايا ذات الصلة بتنظيم الجماعة وتحركاتها. كان من بين القلائل الذين امتلكوا صورة كاملة لطبيعة الهيكل التنظيمي، وقرأوا كل التفاصيل التي تفسر طريقة عمل الجماعة.
بعد 30 يونيو.. مواجهة مفتوحة مع التنظيم
مع اندلاع ثورة 30 يونيو، دخلت مصر مرحلة شديدة الحساسية، في تلك الفترة، كان مبروك في الصفوف الأمامية لعمليات ملاحقة القيادات التنظيمية للإخوان.
لعب دورًا حاسمًا في القبض على خيرت الشاطر، أحد أبرز قيادات التنظيم، ثم شارك في ضبط المرشد العام محمد بديع. هذه العمليات لم تكن سهلة ولا بسيطة، بل كانت تحمل مخاطر هائلة، لكنه كان يدرك أن المعركة معركة وطن لا يحتمل التأجيل.
كانت تحركاته محسوبة، ودوره جوهريًا في تفكيك شبكات الاتصال بين عناصر التنظيم، ما زاد من إصرار الجماعة على استهدافه.
الدراما توثّق أسطورة
جسدت الدراما قصة الشهيد في مسلسل الاختيار، الذي نجح في إعادة الروح الوطنية لدى ملايين المصريين، ظهور شخصية مبروك في العمل لم يكن مجرد تجسيد لشخصية أمنية، بل كان تأكيدًا على أن هذا الرجل يمثل رمزًا لمرحلة كاملة، ورمزًا لمعركة واجهت فيها الدولة أخطر ما تعرضت له في تاريخها الحديث.
اغتيال البطل.. محاولة لإسكات الحقيقة
لم تتوقف الجماعة الإرهابية عند حد التشويه أو التهديد، بل قررت التخلص منه نهائيًا، وفي يوم استشهاده، أطلق مسلحون تابعون للتنظيم النار عليه أمام منزله، كانت العملية دقيقة ومخططة، تؤكد مدى خوفهم من صوته، ظنوا أنهم باغتياله سيمنعون الحقيقة من الظهور، بينما على العكس، تحول استشهاده إلى علامة فارقة كشفت للمصريين حجم العداء الذي يكنه التنظيم للدولة.
ذكرى مختلفة.. وحياة تتغيّر
تحل ذكرى استشهاده هذا العام بطعم مختلف داخل أسرته، فقد شهدت الأيام الماضية حدثًا سعيدًا هو زواج ابنته الكبرى، تلك الطفلة التي ودّعت والدها وهي لا تزال صغيرة، كما تخوض أرملته اليوم معترك الحياة العامة بقوة، بعدما قررت الترشح لعضوية مجلس النواب، مستندة إلى إرث من الشجاعة والإيمان بالوطن.
هذه التفاصيل تُعيد للأذهان أن الشهداء لا يرحلون فعليًا، بل تظل خطواتهم على الأرض حاضرة في حياة من أحبّوهم، وفي وجدان وطن كامل.
العظماء لا يموتون
يقول المصريون إن الأبطال الحقيقيين لا يغيبون، وربما تنطبق هذه العبارة على الشهيد محمد مبروك أكثر من أي شخص آخر. فقد بقي في قلوب الناس رمزًا للنقاء والشجاعة، ورمزًا لضابط آمن برسالته حتى اللحظة الأخيرة، لم يكن مبروك مجرد اسم في سجلات الشرطة، بل كان قوة من ضوء وسط سنوات حالكة.
وفي كل ذكرى لرحيله، يكتشف المصريون أن صوته لم يُغتل، وأن الحقيقة التي ضحّى من أجلها ما زالت حيّة، تضيء الطريق جيلاً بعد جيل.