دولة التلاوة برنامج عاد بنا إلى هوية المدرسة المصرية الأصيلة التى شكلت وجدان كل المصريين منذ زمن. برنامج "دولة التلاوة" ليس برنامجا تلفزيونيا، بل وقفة خشوع ضرورية، كإعلان صريح بأن فن التلاوة، ذلك الإرث السماوى، لم يمت ولن يموت. إنه نفضٌ للغبار عن مجدٍ كاد أن يُنسى، وإعادة اعتبار لجذورنا الروحية العميقة.
لقد انتشل هذا العملُ التلاوةَ من إطارها التقليدى الذى حُبست فيه طويلاً، ليقدمها كـ"حالة فنية" خالصة تخاطب الوجدان العالمى.
لم يعد الأمر مجرد أحكام وتجويد، بل تجربة إنسانية يمتزج فيها الدمع بالصوت، والروح بالصورة. هنا، أثبت القائمون عليه أن مدرسة التلاوة المصرية ليست مجرد تاريخ يُروى، بل هى نبض حى لا يزال قادرًا على تعليم العالم كيف يخشع.
هنا، الصوت له لون، والآية لها ظل. لقد كسرت الكاميرا حواجز الوقار المصطنع لتغوص عميقاً فى "الإنسان" خلف الحنجرة. لأول مرة، نرى تقاسيم الوجه التى يرتعش عليها النور والخشوع، نرى العين وهى تُغمض فى لحظة تجلٍّ، ونشعر بصدق الانفعال قبل أن نسمعه. لم تعد التجربة سمعية فقط، بل أصبحت "بورتريه" حى لروح القارئ وهو يتجلى بعظمة كتاب الله.
إن "دولة التلاوة" هو حوار مهيب بين العمالقة والجيل الجديد. إنه يمسك بخيط النور الممتد من حنجرة الشيخ محمد رفعت، مرورًا بعبقرية مصطفى إسماعيل، وجلال عبدالباسط عبدالصمد، ليضعه أمانة فى أيدى شبابٍ أثبتوا أنهم أهلٌ لحملها. لم يكن البرنامج توثيقًا أرشيفيًا باردًا، بل كان استدعاءً حيًا لأرواح المؤسسين ليروا كيف أن غرسهم لا يزال يُزهر.
الجمال البصرى فى هذا العمل لم يكن ترفًا، بل كان ضرورة. الإضاءة الخافتة كضوء الفجر، وزوايا التصوير التى تلتف حول القارئ كأنها تحتضن صوته، والموسيقى التصويرية التى تسير كظلٍّ خافتٍ خلف التلاوة دون أن تنافسها؛ كل هذا خُلق ليصنع "محرابًا بصريًا" يليق بجلال الكلمة. لقد نجحوا فى مخاطبة جيل "الصورة" السريعة، وأجبروه بلطف على التوقف والتأمل.
لم يكن "دولة التلاوة" مجرد برنامج عابر، بل كان صرخة فنية عالية فى وجه كل ما هو قبيح ومبتذل. لقد قال للعالم: أن هويتنا الروحية لا تزال حية، وإن القرآن ليس فقط كتابًا يُقرأ، بل هو تجربة جمالية مطلقة تُعاش. لقد أعاد هذا العمل تعريف علاقتنا بالقرآن، وأثبت أن الجمال، فى أنقى صوره، هو أقصر طريق إلى الله.