لا تزال المقولة الخالدة "نزل القرآن في مكة وقُرئ في مصر" تعبر بأبلغ الكلمات عن المكانة الفريدة التي احتلتها المدرسة المصرية في تلاوة القرآن الكريم عبر العقود، فمصر، التي احتضنت عمالقة القراء، لم تكن مجرد محطة لانتشار التلاوة، بل كانت منارة كبرى خرج منها أعظم الأصوات التي هزت وجدان الأمة الإسلامية، وبلغت تلاواتهم أقاصي الأرض.
واليوم، ومع التطورات المتسارعة وظهور مواهب قرآنية من دول مختلفة، تواصل مصر دورها الريادي عبر إطلاق برنامج "دولة التلاوة"، الذي يمثل مرحلة جديدة من العناية بصناعة القرّاء والمبتهلين.
فمنذ بدايات القرن الماضي، بزغت في مصر أسماء خالدة صنعت تاريخ التلاوة؛ أصوات تحمل من الخشوع ما يلين القلوب، ومن الإحكام ما يدهش المتخصصين، ومن الروحانية ما يرفع المستمع إلى فضاءات الإيمان. أصوات كبار القرّاء — الذين صاروا مدارس قائمة بذاتها — ما زالت حتى اليوم تُدرّس، وتُحفظ، وتُقلَّد في كل مكان، لتبقى مصر بحق عاصمة الصوت القرآني ووجهته الأولى.
وعلى مدار عقود، كانت ولا زالت مصر، كما عهدها العالم الإسلامي، حارسًا لصوت القرآن، وموطنًا للتجويد المتقن، ووجهةً لكل من يريد أن يتعلم فنون التلاوة على أصولها. وستظل صدى تلاواتها يصدح عبر الزمن، يلامس الأرواح ويحيي القلوب، ويؤكد أن صوت القرآن حين يُتلى على الطريقة المصرية.
الشيخ علي محمود
عند ذكر دولة الإنشاد، لم يمكن إغفال القارئ الشيخ علي محمود، سيد القراء وإمام المنشدين في عصره، ذلك القارئ الرائد في دولة التلاوة الذي استطاع أن يخرج من تحت يده أجيال ورموزًا كبيرة في التلاوة والإنشاد منهم الشيخ طه الفشني، والشيخ محمد كامل البهتيمي، وتعلم على يده أسس التجويد والتلاوة سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.
ولد الشيخ علي محمود عام 1878، بحي الحسين بالقاهرة، وتعرض في سن صغير لحادث كان سببًا في فقدانه النظر، ودرس القرآن في الكُتاب كمثل كل أبناء عصره، وأخذ قراءاته على الشيخ مبروك حسنين، ثم درس الفقه على الشيخ عبد القادر المزني. ذاع صيته بعد ذلك قارئاً كبيراً وقرأ في مسجد الحسين فكان قارئه الأشهر.
درس بعد ذلك الموسيقى على يد الشيخ إبراهيم المغربي، وعرف ضروب التلحين والعزف وحفظ الموشحات، كما درسها أيضاً على شيخ أرباب المغاني محمد عبد الرحيم المسلوب وحيد عصره وفريد دهره حتى صار الشيخ علي محمود أحد أشهر أعلام مصر قارئاً ومنشداً ومطرباً وبلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة في الحسين كل أسبوع أذاناً على مقام موسيقي لا يكرره إلا بعد سنة.
من أشهر النوابغ الذين اكتشفهم الشيخ علي محمود القارئ العملاق الشيخ محمد رفعت الذي استمع إليه الشيخ علي مرة سنة 1918 م يقرأ وتنبأ له بمستقبل باهر وبكى عندما عرف أنه ضرير، وأفاد الشيخ رفعت في بداياته كثيراً من الشيخ علي محمود، وصار سيد قراء مصر وصوت الإسلام الصادح فيما بعد.
رحل الشيخ علي محمود إلى جوار ربه في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1946 م تاركاً عدداً غير كثير من التسجيلات التي تعد تحفاً فنية رائعة.
الشيخ محمد رفعت
وحين نتحدث عن "المدرسة المصرية في التلاوة" فنحن لا نقصد مجرد لهجة أو طريقة نطق محلية، بل نقصد مزيجًا مركبًا من عناصر عديدة منها ضبط أحكام التجويد على أساس أزهري رصين، حس موسيقي يعتمد على المقامات العربية من دون إفراط في الاستعراض، وعي بمعنى الآية وسياق السورة، يجعل الارتجال الصوتي خادمًا للمعنى لا مستعرضًا للقارئ، ثم حالة خشوع وإحساس تجعل المستمع يشعر أن القارئ يعيش مع النص لا يؤديه أداء آليًا.
هذه العناصر اجتمعت تاريخيًا في أصوات كبار القراء المصريين، فصنعت في وعي العالم العربي تعبيرًا واضحًا، إذا أردت أن تسمع القرآن "كما ينبغي أن يكون"، فستجد نفسك في النهاية أمام صوت مصري، خرج من مدرسة الأزهر وتربى على موجات الإذاعة المصرية.
ربما لم يجسد أحد هذه المدرسة مثلما جسدها الشيخ محمد رفعت، فالرجل لم يكن مجرد قارئ موهوب، بل كان في نظر أجيال متعاقبة مدرسة، ومع ظهور الإذاعة في النصف الأول من القرن العشرين، صار صوت الشيخ رفعت جزءًا من تفاصيل اليوم المصري.
كانت البيوت تفتح الراديو عند الفجر، فينطلق صوته من جهاز صغير ليملأ الحارة والبيت والقلب، لم يكن الصوت عاليًا أو صارخًا، بل كان قريبًا وهادئًا، يتدرج في المقامات كمن يمسك بيد المستمع ويدخله خطوة خطوة إلى عوالم النص القرآني.
ميزة تجربة الشيخ رفعت لم تكن في المهارة الصوتية وحدها، بل في كونه فتح بابًا جديدًا أمام التلاوة، فقد أخرج القرآن من نطاق المسجد وحده إلى فضاء عام أوسع هو "صوت الدولة"، ومنح الناس نموذجًا جديدًا لفكرة "القارئ": ليس مجرد إمام حارة، بل صاحب رسالة جمالية وروحية تشترك فيها الأمة كلها.
الشيخ عبد الباسد عبد الصمد
وُلِدَ الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد سليم داود في 1 يناير عام 1927م، بقرية المراعزة التابعة لمدينة أرمنت بمحافظة قنا، التحق الشيخ بالإذاعة المصرية واعتُمِدَ بها قارئًا عام 1951م، وكان أولَ نقيب لقراء مصر عام 1984م، وتوفِّي في 30 نوفمبر عام 1988م، وكان يوم وفاته يومًا مشهودًا.
وتحل اليوم الخميس الذكرى الخامسة والثلاثون لرحيل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ، والذى توفى فى 30 نوفمبر من عام 1988.
سافر الشيخ عبد الباسط عبد الصمد إلى القاهرة في سن السابعة والعشرين، والتحق بإذاعة القرآن الكريم في نهاية عام 1951م؛ ليبدأ مسيرته القرآنية العالمية، كما عين قارئًا لمسجد الإمام الشافعي، ومسجد سيدنا الإمام الحسين، ويعد الشيخ أول نقيب لقراء مصر عام 1984م.
وقرأ رحمه الله في الحرمين الشريفين؛ ولهذا لقب بـ «صوت مكة»، كما قرأ في المسجد الأقصى المبارك، والمسجد الأموي بدمشق، وكان يحظى بحب الملوك والرؤساء، حيث كانوا يستقبلونه استقبالًا رسميًّا حافلًا.
الشيخ محمد صديق المنشاوي
ولد فضيلة الشيخ محمد صديق المنشاوى فى 20 يناير من العام 1920، بقرية المنشاة التابعة لمحافظة سوهاج، وفي عام 1966، وأصيب بمرض دوالى المرىء وعلى الرغم من مرضه وتدهور حالته الصحية ظل يقرأ القرآن حتى رحل في مثل هذا اليوم 20 يونيو عام 1969، ودفن في مقبرة بسيطة بمسقط رأسه في سوهاج.
الشيخ محمد صديق المنشاوي هو أحد أعلام تلاوة القرآن الكريم ، الذين تركوا بصمة لا تُمحى في تاريخ القراء والمستمعين على حد سواء.
التحق الشيخ المنشاوي في سن مبكرة بكتَاب القرية، حيث بدأ بتعلم القرآن الكريم كانت دراسته في الكُتَّاب بداية لمشوار طويل في مجال حفظ وتلاوة القرآن أتم حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وكان يتلوه بطريقة تميزت بالخشوع والتركيز على مخارج الحروف وأحكام التلاوة، ولم تقتصر تلاوته على الكتابة فقط، بل كان يستمع إلى كبار القراء في مصر ويستفيد من علومهم، مما جعله يتمكن من إتقان القراءات العشر وتعلم الألحان الصوتية التي كانت تميز تلاواته فيما بعد.
لقد ترك الشيخ محمد صديق المنشاوي بصمة لا تُنسى في مجال تلاوة القرآن الكريم تلاواته تظل واحدة من أروع التلاوات التي يحرص المسلمون في جميع أنحاء العالم على الاستماع إليها، إذ لا يزال صوت الشيخ المنشاوي يلامس قلوب محبيه وعلى الرغم من مرور 56 سنه على وفاته، إلا أن إرثه لا يزال حياً في ذاكرة كل من استمع إلى صوته العذب والجميل.
في حياته، كان الشيخ المنشاوي رمزاً للخشوع، وللإخلاص في خدمة القرآن الكريم لم يكن مجرد قارئ عادي، بل كان يعتبر التلاوة عبادة وتفانياً في خدمة كتاب الله وقد تجلى هذا التفاني في عمله على بناء مسجد في منزله بعد أن كان قد خصص الطابق الأرضي لتخزين السيارات تعاون مع أحد أصدقائه المسيحيين لبناء هذا المسجد، الذي أصبح يحمل اسم "مسجد الشيخ صديق المنشاوي" نسبة إلى والده.