-
وخدمات إنسانية فى مدارس ومستشفيات وجمعيات خيرية
-
جذور تمتد من جبال لبنان إلى أرض الكنانة
منذ قرون بعيدة، حملت قوافل الإيمان اللبنانى رسالتها إلى مصر، فكانت الطائفة المارونية من أبرز من نسج خيوطًا إنسانية وروحية بين ضفتى المتوسط. فكما حمل النيل الحياة فى مجراه، حمل الموارنة إلى أرضه روح التجدّد والعمل والتعليم. لم تكن هجرتهم مجرد انتقال جغرافى، بل امتداد لرسالة كنسية وثقافية صنعت بصمتها فى تاريخ مصر الحديث.
ومنذ القرن السابع عشر، ومع أول الرهبان الذين حلّوا بدمياط، بدأت الحكاية التى تحولت بمرور الزمن إلى نسيج متين من الإيمان والعطاء، حتى غدت الكنيسة المارونية اليوم ركيزة من ركائز التنوع الدينى والحضارى فى مصر.
من آثار القرون الوسطى إلى دمياط 1745
وتدل المخطوطات القديمة، مثل سجلات الآباء الفرنسيسكان فى دير الموسكى، على وجود موارنة فى مصر منذ القرن السابع عشر وربما قبله. فقد ورد فى أحد المخطوطات البريطانية لعام 1498 ذكر لراهب مارونى يدعى القس موسى كان يقيم بالقاهرة ويخدم أبناء طائفته.
وفى عام 1638، زار البطريرك جرجس عميرة الاهدنى القاهرة ليلتقى بالموارنة المقيمين فيها، فى إشارة واضحة إلى تنامى عددهم آنذاك. أما المحطة المفصلية، فكانت عام 1745 حين وصل الرهبان الحلبيون – المعروفون اليوم بالآباء المريميين – إلى دمياط، لينطلقوا منها لخدمة الموارنة فى سائر أنحاء البلاد.
من النيابة إلى الأبرشية
مع ازدياد أعداد الموارنة خلال القرن التاسع عشر، قرر البطريرك إلياس الحويك عام 1906 إنشاء النيابة البطريركية المارونية لمصر والسودان، التى تحولت لاحقًا عام 1946 إلى أبرشية القاهرة المارونية بمرسوم من البابا بيوس الثانى عشر. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت القاهرة مركزًا دينيًا وإداريًا للطائفة، تشرف على كنائسها ومؤسساتها المنتشرة فى المحافظات.
من التجارة الفينيقية إلى المصارف الحديثة
وذكر المطران جورج شيحان مطران الطائفة المارونية فى مصر خلال تصريحات صحفية أن الموارنة حملوا معهم إلى مصر روح المبادرة والريادة التى عُرف بها اللبنانيون منذ العصور الفينيقية. وفى القرن التاسع عشر، ازدهرت مساهماتهم الاقتصادية مع نهضة محمد على باشا، حيث وفد العديد من المتعلمين اللبنانيين الناطقين بالفرنسية، فتقلدوا مناصب فى البنوك والشركات الأوروبية.
أسسوا بيوتات تجارية كبرى ومحالًا مشهورة مثل محلات صيدناوى، وبرز رجال أعمال مؤثرون منهم حبيب السكاكينى الذى ترك بصمة فى عالم المال والعمران. لم تكن تجارتهم بحثًا عن الربح فحسب، بل وسيلة لتجسير العلاقات الاقتصادية والثقافية بين لبنان ومصر.
الصحافة اللبنانية.. صوت مصر الحديثة
كان للموارنة واللبنانيين عامة دور ريادى فى تأسيس إصدارات من الصحافة المصرية الحديثة. فالأخوان بشارة وسليم تقلا أسسا جريدة الأهرام عام 1876، بينما أطلق يعقوب صروف مجلة المقتطف، قبل أن يؤسس مع فارس نمر جريدة المقطم.
أكثر من 77 صحيفة ومجلة لبنانية نشأت فى مصر فى تلك الحقبة، ما جعل من القاهرة مركزًا إشعاعيًا للثقافة العربية الحديثة.
الفن السابع والنهضة المسرحية
امتد الإبداع المارونى إلى عالم السينما والمسرح، حيث لمع مخرجون كبار مثل يوسف شاهين وهنرى بركات، وبرز ممثلون من أصول لبنانية مارونية مثل عمر الشريف وبشارة واكيم وآسيا داغر ومارى كوينى وجورج أبيض، الذين ساهموا فى ازدهار “العصر الذهبي” للفنون المصرية.
تعليم وخدمة.. مدارس ومؤسسات للخير والعلم
منذ بدايات القرن العشرين، أنشأ الموارنة فى مصر مؤسسات تعليمية وصحية أسهمت فى نهضة المجتمع. فمدرسة القديس يوسف بالظاهر (1906) ومدرسة مصر الجديدة للآباء المريميين قدمتا تعليمًا راقيًا لأجيال متعاقبة، بينما أسسوا مستشفى القديسة ريتا وجمعية المساعى الخيرية المارونية عام 1880 لتقديم الدعم للفقراء والمرضى.
هذه المؤسسات لم تخدم الموارنة وحدهم، بل انفتحت على المجتمع المصرى بكل طوائفه، لتؤكد أن رسالة الكنيسة المارونية هى “خدمة الإنسان أولًا”.
خريطة الكنائس والرعايا المارونية فى مصر من شبرا إلى الإسكندرية
تنتشر الكنائس المارونية اليوم فى معظم المدن المصرية، ولكل منها قصة تعبق بالعراقة:
كنيسة مار جرجس بشبرا (1881) كانت أول مركز روحى منظم للطائفة فى القاهرة.
كنيسة سانت تريز فى بورسعيد وُلدت مع افتتاح قناة السويس عام 1869، لتخدم الجالية اللبنانية المزدهرة هناك.
كنيسة مار مارون بمصر الجديدة، التى بُنيت عام 1932، تعدّ من أجمل الكنائس المارونية، وتضم اليوم مستشفى ومدرسة ومركزًا رعويًا.
كنيسة سانت تريز بالإسماعيلية (1951) وكنيسة سانت تريز بالإسكندرية (1943) وكاتدرائية القديس يوسف بالظاهر (1909) تشكل معًا أعمدة الحضور المارونى فى الدلتا والساحل الشمالي.
المطرانية.. القلب النابض للطائفة
أُقيم بيت المطرانية الحالى فى شارع حمدى بالظاهر بتصميم المعمارى نعوم شبيب (بانى برج القاهرة)، ويمثل المركز الإدارى والروحى للأبرشية. ومن هناك تُدار الشؤون الرعوية والاجتماعية والتعليمية، وتُطلق المبادرات الثقافية التى تربط الكنيسة بالمجتمع المدني.
القيادة الروحية: من دريان إلى شيحان
تعاقب على رئاسة النيابة والأبرشية عدد من المطارنة الذين أسهموا فى ترسيخ الوجود المارونى، بدءًا من المطران يوسف دريان (1906-1920) وصولًا إلى المطران جورج شيحان، الذى يقود الأبرشية منذ عام 2012.
المطران شيحان، المولود فى جونيه بلبنان، جمع بين الروح اللاهوتية والفكر الثقافى، وأطلق مبادرات لتعزيز الحوار الإسلامي–المسيحى، وأسس المركز المارونى للثقافة والإعلام فى القاهرة والإسكندرية ليكون جسرًا للتنوير والتواصل.
كما عمل على ترميم الكاتدرائية وتحديث المقر الأسقفى ودعم المؤسسات التعليمية والرعوية فى القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسودان، ليعيد للأبرشية حيويتها فى قلب القرن الحادى والعشرين.
الموارنة والعيش المشترك فى مصر
لم تكن الطائفة المارونية مجرد جماعة دينية مهاجرة، بل جزء من نسيج وطنى متكامل. فقد أولت الكنيسة المارونية اهتمامًا خاصًا بالحوار مع الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، وسعت لترسيخ قيم المواطنة والتسامح.
تعتبر مصر فى نظر الموارنة “أرض اللقاء”، حيث تلتقى الديانات والثقافات، وحيث يجد الإنسان مكانًا رحبًا لممارسة إيمانه بحرية ومسؤولية.
هوية ورسالة
منذ نشأتهم فى جبال لبنان، جسّد الموارنة نموذجًا فريدًا للتعايش، رفضوا فيه الانغلاق أو الأحادية، وسعوا إلى بناء ثقافة توافقية تجمع الشرق بالغرب. وصفهم المستشرق الإيطالى غبريللى بأنهم “تراجمة البشرية”، لأنهم جسور حضارية تربط بين العالمين.
وكما قال البابا يوحنا بولس الثانى، “لبنان وطن الرسالة”، فإن أبناء هذا الوطن فى مصر حملوا الرسالة ذاتها، فساهموا فى نهضة الفكر، والاقتصاد، والإيمان، وأغنوا التنوع المصرى بما لديهم من طاقة إبداع وتسامح.
جذور تمتد وأفق مفتوح
ومن دير صغير فى دمياط إلى كاتدرائية القديس يوسف فى قلب القاهرة، تمتد رحلة الموارنة فى مصر كصفحة مضيئة من تاريخ العيش المشترك. إنها قصة إيمان وعمل، جمعت بين العبادة والتعليم، وبين المحبة والوطنية.
واليوم، تواصل الطائفة المارونية رسالتها فى مصر، تحت رعاية المطران جورج شيحان، فى خدمة الإنسان المصرى ككل، شاهدةً على أن مصر كانت – وستظل – وطنًا يحتضن الجميع فى كنفه، يرويهم بماء النيل كما يروى جذورهم بالإيمان.