سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 13 نوفمبر 1920 .. مولد المبدع الاستثنائى عبدالرحمن الخميسى الذى عاش طفولته وحيدا بائسا فأعطى بلا حدود للضعفاء والمحتاجين حين أصبح قادرا

الخميس، 13 نوفمبر 2025 10:00 ص
سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 13 نوفمبر 1920 .. مولد المبدع الاستثنائى عبدالرحمن الخميسى الذى عاش طفولته وحيدا بائسا فأعطى بلا حدود للضعفاء والمحتاجين حين أصبح قادرا  المبدع الاستثنائى عبد الرحمن الخميسى

كان الطفل عبدالرحمن الخميسى فى السادسة من عمره حين اختطفه شيخ معمم من أحد شوارع بورسعيد فى إحدى ليالى شهر رمضان، وقبل أن يصيح الطفل كمم الشيخ فمه، ولفه بعباءة سوداء، قائلا له لطمأنته: «لا تخف أنا والدك».

لم ير عبدالرحمن والده قبل اختطافه، فيوم صدور شهادة ميلاده، 13 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1920، صدرت أيضا قسيمة طلاق والده لوالدته عائشة لتحمله إلى مسقط رأسها فى أحد أزقة حى المناخ ببورسعيد، وتزوجت، وحرصت على ألا يعرف طفلها حقيقة الرجل الذى فى البيت حتى لا تؤلمه وهو صغير، وساعد على ذلك أن عبدالرحمن لم يشعر أنه يحيا فى كنف رجل غريب، وكان يناديه «بابا إسماعيل».

حمل الأب طفله من بورسعيد إلى مركب فى بحيرة المنزلة، وفى الصباح وجد عبدالرحمن نفسه فى أحضان قرية «منية النصر»، دكرنس، محافظة الدقهلية، حسبما يذكر فى مذكراته بجريدة «الجمهورية» عام 1967، وينقل منها الكاتب الصحفى يوسف الشريف فى كتابه «عبدالرحمن الخميسى القديس الصعلوك»، وكتب الخميسى منها فصلا واحدا فقط، ويؤكد الشريف: «بدأ فى عواصم وأوقات مختلفة كتابه مذكراته ألف مرة دون أن يتمها مرة واحدة».

كان الاختطاف محطة نقلت «الخميسى» لحياة أهلته ليكون فريدا فى عطائه الإنسانى، واستثنائيا فى إبداعه، وحسب الشريف: «كان شاعرا فحلا، وكاتبا مرموقا، ومترجما أمينا، وقاصا وروائيا ومؤلفا مسرحيا، وإذاعيا وسينمائيا وموسيقيا، ومذيعا ذا صوت ذهبى، وممثلا وصاحب مواقف مشهودة فى سجل النضال الوطنى، فضلا عن كونه صعلوكا أشر بالمعنى الجميل فى تراث شعراء الصعاليك العرب، ومزواجا ومغامرا ومتلافا وبوهيميا وأكولا ومحدثا ومهزارا، وسميرا وظريفا لا يشق له غبار».

فى مذكراته يتذكر نشأته وأسباب انفصال والديه، قائلا: «كانت والدتى حضرية من بورسعيد، ووالدى قرويا بسيطا يعبر عن عواطفه الريفية بأسلوب خشن، كانت هى تمثل المدينة الساحلية المصقولة المضاءة بالكهرباء، وكان هو يمثل الحقل غير المهذبة حواشيه ولكنه يفوح برائحة النمو، ويشرب أضواء الشمس، ويتدثر برداء الفضاء وعتمته، ولم يكن من المستطاع أن يعيش النقيضان تحت سقف واحد، فتم بينهما الانفصال، وضيعانى وأنا طفل صغير».

يذكر «الخميسى» بأسى حياته فى منية النصر بعد اختطافه، قائلا: «منذ اللحظة الأولى أدركت الفرق الشاسع بين بورسعيد الجميلة التى تصل بيوتها مواسير المياه النقية، وبؤس الريف بحواريه وأزقته المتربة الموحلة، والمضاء بمصابيح الجاز أو بشعل من فتيل قماش فى علب من الصفيح، ويشرب أهله قواقع البلهارسيا من مياه الترع، وحاول أبى وزوجته أن ينسيانى والدتى لكنهما لم ينجحا فى ذلك، أرسلنى والدى إلى مدرسة ابتدائية فى قرية الزرقا، واستأجر لى هناك غرفة صغيرة لأقيم فيها، ومن ثم خلوت إلى نفسى وأنا فى السابعة تقريبا، وكنت أطوف على شاطئ النيل فى كل مساء، وأحلم بوجه أمى وحنانها المفقود وأغنى أى كلام يعبر عن حنينى ووحدتى، وأكتشف أن دموعى تسيل على وجنتى».

يصف «الخميسى» حياته فى «الزرقا»: «كنت وحدى فى غرفتى الصغيرة، أثاثها حصيرة ومرتبة صغيرة وغطاء ومصباح غازى ووابور سبرتو وسلة مليئة بالخبز، وبعض أحقاق معبأة بالجبن والحلوى، وكان أبى يعطينى كل أسبوع عشرة قروش أنفقها فيما أريد، وكانت الطعمية فاكهة بالنسبة لى، أشترى منها فى كل وجبة غذاء بثلاثة مليمات، وعصر كل خميس كنت أستقل القطار من الزرقا إلى منية النصر، فأصل إليها قبل الغروب، وكان اتساع الحقول يمد أمامى بساط التأمل، كما كان هدوء الريف يعاون قلبى على الاستغراق فى الذكريات، ومن عجب أن تكون لطفل فى الثامنة ذكريات تسحب قلبه إليها، وتحرك أشجانه لتحولها من حاضر بائس إلى شىء جميل مضىء».

افتقدت طفولة «الخميسى» للرعاية والحنان، فاعتمد على نفسه فى تصريف شؤونه وهو لا يزال طفلا، والتزم بالتقشف والتدبير فى حدود العشرة قروش مصروفه الأسبوعى، وولد شعوره العميق بالوحدة فى نفسه إدراكا مبكرا بأن حياة الإنسان بين يديه وعليه أن يصنعها بنفسه، وفقا لما يذكره الشريف، مضيفا: «مد حبال الصبر وتقبل حالة التعاسة بعد أن أعيته الحيرة فى تفسيرها، بينما أقرانه من أطفال منية النصر والزرقا ينعمون غنيهم وفقيرهم بالرعاية فى كنف الأب والأم معا تحت سقف واحد».

عرف «الخميسى» من هذه المرحلة البائسة فى حياته كيف يكون إنسانا، ويرى الشريف: «منذ ذلك العهد البعيد بالطفولة، حفر الألم والتأمل والعطف بالمساكين والأخذ بيد الضعفاء والضائعين أخاديد عميقة فى قلب الخميسى وضميره، فكان عطاؤه بلا حدود، منذ أن أصبح يملك القدرة على العطاء لكل من يستنجد به من محن الحياة، ويستظل بشجاعته المظلومون من هجر ظالميهم، يستوى فى ذلك ظلم الحكام للرعية أو الرؤساء لمرؤوسيهم، أو ظلم طبقة اجتماعية لغيرها، ومن هنا أحسب أن اختيار الخميسى للاشتراكية فى شبابه نهجا لحياته وطريقا سياسيا للعدل والمساواة كأنه قدر محتوم لا فكاك منه».




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب