عاد جثمان هدار جولدن لإسرائيل بعد أحد عشر عاما من مقتله فى غزة، وكانت استعادته شرط حكومة الاحتلال لتأمين ممرٍّ لنحو مائتين من عناصر القسَّام المُحاصرين وراء الخطِّ الأصفر، قبل أن ينقلب نتنياهو على موافقته المبدئية استجابة لضغوط حلفائه من أحزاب المستوطنين، ويتشدد رئيس أركانه إيال زامير بشأن القضاء على المجموعة المتحصنة فى أنفاق منطقة الجنينة بمدينة رفح.
تلك واحدة من رواسب المرحلة الأولى لاتفاق وقف الحرب، بجانب بقية الجثامين التى لم تُسلّم بعد، على أمل تضييق نقاط الخلاف والانتقال بالصفقة إلى المرحلة التالية.
لن تخسر حماس أكثر مما خسرته طوال شهور القتال، لكنها لا تريد التضحية بمزيد من رجالها مجانا، ويعود انشغالها بموضوع مقاتلى رفح إلى رغبتها فى تأكيد الالتزام العضوى تجاه قواعدها، بقدر ما تعبر عن رغبة فى استمرار التهدئة، وعدم منح العدو أى فرصة للإفلات من استحقاقات ما بعد إطلاق الأسرى وفقدان آخر أوراق التفاوض والمقايضة.
لا سيما أن خط التماس قد شهد واقعتى اشتباك قبل عدة أسابيع، انطلاقا من عُزلة المقاتلين وعدم علمهم بالتطورات، أو من تمردهم على ترتيبات وقف إطلاق النار وبحثهم عن النجاة الفردية. وتعرف الحركة أنها فى مواجهة مركبة مع الداخل والخارج، وليست فى وارد الارتباك داخليا، أو رفاهية التحلل التنظيمى المبكر، وعدم احتكار قرارها ككتلة متماسكة برأس واحد.
والغالب أن الولايات المتحدة التقطت طرف الخيط من تل أبيب، عندما كانت منفتحة على إنجاز تفاهم جزئى يعيد القساميين مقابل استعادة رفات جولدن. وربما منحت وعدا لحماس بتسهيل المبادلة حالما تُوفّى بالشق المطلوب منها.
لهذا، عاد مستشار الرئيس الأمريكى ستيف ويتكوف، وصهره جاريد كوشنر، إلى إسرائيل للمرة الثالثة تقريبا فى غضون شهر. فيما يبدو أنه لغرض إقناع بنيامين نتنياهو بضرورة إرجاء المماحكات لما بعد التفاصيل السهلة من بنود خطة ترامب، والتلاقى مع جهود مصر لتثبيت اتفاق شرم الشيخ، بالتزامن مع مساعيها لبناء توافقات بينية فلسطينية، وتوفير الرافعة الضرورية لدخول نطاق الانتقال السياسى، لأنه لا قيمة للتهدئة من دون تطبيع ظروف الحياة مجددا فى القطاع، ولا معنى لتبريد الجبهة إلا مع وضعها على أول طريق التعافى وإعادة الإعمار.
وعلى بساطة المُنازعة الحالية ظاهرا، فإنها تنطوى على عقدة حقيقية لدى الطرفين. ذلك أنهما يهتمان بالصورة على حساب المضمون، ويبحث كل فريق فيهما عن عوائد مباشرة، تُترجم فى الدعاية ما لم يتحقق فى ساحة الحرب. وبقدر ما يُجسّد انتشال العالقين رصيدا لحماس أمام بيئتها، فإن غريمها اليمينى على الجانب الآخر يرى ما فيه من إشارات على التفريط، وتداعى سردية النصر وتحقيق باقة أهدافه الكاملة.
وفيما طُرح الاستسلام بديلا من جهة الصهاينة، وردّ الحماسيون بأنه ليس فى ثقافتهم ولن يذهبوا إليه، فإن جهود تجسير الهوّة الواسعة بينهما قد تنصرف إلى التوفيق بين المتناقضات، لا سيما أن المقاتلين محل الجدل لن يخرجوا بسلاحهم فى كل الأحوال، بل لم يعد سلاح المقاومة حاضرا أو فعالا من الأساس.
ما يُرجح احتمالية أن يُنتزع خيار الإفناء من بين مخالب الساسة والجنرالات فى تل أبيب، ويكون الخروج إلى وجهة غير مناطق نفوذ الفصائل فى غزة.
وأهمية الموضوع هنا تتخطّى الأعداد والمصائر، لأن النتيجة النهائية فيها ستكون تعبيرا عن جدية واشنطن فى استكمال الاتفاق وتحصينه، وعن مدى المطاوعة من جانب نتنياهو وشركائه فى الحكم، وطريقة الإخراج التى ستُطرح بها فلسفة الترويض والإملاء من الأخ الأكبر على حليفه الصغير.
ويُرجَّح أن الإجهاز على مجموعة المقاتلين لن يعرض الاتفاق للخطر كما تهدد حماس، لكن الذهاب إلى تفكيك العقدة بنعومة نسبية، سيُعزز التفاؤل بالغامض من خطط الانتقال وبقية ملامح اليوم التالى، لأنه سينُم عن انعدام رغبة الأمريكيين فى المغامرة واختبار الخيارات الخطرة، ونزوعهم إلى تقريب الرؤى وكبح الاندفاعات العاطفية الصاخبة على الجانبين.
بقدر ما ستُوظِّف يدَها العُليا على الدولة العبرية اليوم، سيكون الاستشراف لحجم الخشونة المتوقعة مع محاولات حماس للمراوغة المتوقعة فى القريب.
ولا يعنى ذلك أن الولايات المتحدة وسيط نزيه، أو يمكن أن تكون، لكنه يشى ضمنيا بالانطلاق من أفكار وتصورات متباينة، وبأن المصلحة الأمريكية لم تعد محكومة بتفضيلات الائتلاف الحاكم فى إسرائيل، ولا ما يُريده نتنياهو ويقرّه من منطلقات شخصية خالصة.
أى أن الصفقة المُبتغاة بشأن عيّنة ضئيلة للغاية من قوة حماس، ستكون إضاءة استباقية مكثفة على آخر ما يُمكن أن يُمنَح للحركة ارتضاء، أو تُحصّله بالتشدد والتشغيب ومقارعة بقية الشروط والالتزامات.
والخلاصة، أن الكتلة البشرية ليست محل اعتبار طالما لم تعد فاعلة، لا مجال للعبور بالسلاح وفق سوابق الأحوال، ولن تتحرك الجغرافيا لتغطية الانكشاف الميدانى أو تصحيح التوازنات المختلة، إنما التحرك كله من نصيب البشر فى آجال ما تزال غير محددة بدقة، وفى ضوء ذلك إما أن يتزحزح الاحتلال عن مواضعه وفق الترتيبات المقررة، أو يختنق المقاومون فى أماكنهم بحصار الساعات وتراكم الاحتياجات المعلقة.
وتفسير ما سبق ببساطة، أن موضوع الإدارة الانتقالية غير الملونة سياسيا وفصائليا ليس هامشا على متن الحلول المقترحة، بل يقع فى قلبها الصلب وتنبنى عليه بقية المراحل والاحتمالات. فإما أن يُصار إلى إعادة تكييف التموضعات الحالية واستخلاص القطاع من مُجنزرات الاحتلال، أو تتجمد الخرائط على وضعها الراهن، بما يعنى خروج ما يزيد على نصف المساحة الضيقة أصلا من ورشة البحث عن مستقبل مُضيّع تحت أكوام الركام.
شىء شبيه للأسف بما يحدث فى لبنان، وقد أسس حزب الله دعاياته على خطاب الممانعة ومقاومة الاحتلال، لكنه استدعاه عمليا إلى جنوبى الليطانى بعد نحو ربع القرن من التحرر. ويُعلّق خروجه اليوم على حصرية السلاح فى يد الدولة، فيما يتكفل منطق الدويلة المهيمن على فضاء بيروت بإمداده بالذرائع الكافية لإبقاء الجبهة ساخنة دون أى أفق سياسى.
وبالرغم من معرفة الضاحية الجنوبية بوقائع الأرض، ويقينها من اختلال معادلات الردع والتوازن مع العدو، فإنها تصر على حال أورثتها الهزيمة، وتتهدد الوطن كاملا بمخاطر لا قبل له بها وتفوق طاقته.
وهو مدفوع لهذا بإملاءات من رأس الممانعة، ومشدود إليه برغبة خالصة فى استبقاء رمزيته المهيمنة على القرار الوطنى، مرة بتلويث مفهوم الميثاقية، وأخرى بالإرهاب وإشهار البنادق ومواكب الدراجات والقمصان السود، ومرّات بتوظيف فائض القوة الخاص فى حراسة وتأبيد سياق الضعف الجماعى العام.
وحال الخاصرة الغربية، لا تختلف عن مثيلتها فى قوس الشام الذى يطوّقها من جهتين ونصف الجهة. ذلك أن سقوط نظام الأسد فى سوريا تولّد عن حصيلة اختلالاته البنيوية العميقة، وكان تعبيرا عن انقضاء فاعليته الوظيفية فى محيطه، لا عن قوة البديل الصاعد على أكتافه فى مفاجئة غريبة وصادمة، ومن سهولتها تكاد توحى بترتيب عملية الإحلال فى الغرف المظلمة، وليس فى ساحة الصراع بين ميليشيات النظام القديم وميليشيا البديل الجديد.
وبعيدا من صعوبة الجزم بمآلات السلطة الوافدة على دمشق قبل سنة من الآن، فإن ما يبدو أن الجولانى تغير شكلا ولم يتغير فى المضمون، لأنه اتخذ سمت رجل الدولة ولم يتخلّ عن تكتيك رجال العصابات، ويستثمر بكل طاقته فى السيولة المُولّدة للمخاوف بشكل دائم، لكن ميزتها المرادة أنها تمنحه متسعا للمناورة والرقص على إيقاعات شتّى، وربط نفسه مع كل الجهات بالتزامن، والانفصال عنها فى آن واحد.
والحال، أن سوريا لا تسير على طريق الدولة الوطنية، وهى معروفة ومُجرّبة لقرون طوال، كما لا يبدو أن قادتها الجدد راغبين فى ذلك من الأساس. إنهم يدعون بقية المكونات على الدخول فى عباءتهم الضيقة، لكنها دعوة بنية عدم الاحتواء من الأساس، وكما لو أنها تحفز المُرتابين والرافضين على البقاء فى أماكنهم.
وكما يصمتون على احتلال الجنوب بدعوى الاضطرار، فإنهم لا يثيرون مقابله الموضوعى المطابق تماما فى الشمال، برغم العلاقة التى تسمح بترتيب الحد الأعلى للدولة دون تعرض للحرج أو انتهاك السيادة.
ولم يُثِر الأمرَ، ولو على سبيل الجدل وحفظ ماء الوجه. ذلك أن الرهان ينصرف بالأساس إلى توظيف الجميع ضد الجميع، والسباحة فى مستنقع الأجندات المتضادة والمتصارعة، احتماء بكل واحدة ضد الأخرى، وسعيا إلى تثبيت النظام باعتباره ضمانة اللاعبين الذين لا رابط بينهم ولا وفاق.
أمس كان ويتكوف وكوشنر فى تل أبيب، بينما يستقبل ترامب الرئيس السورى فى البيت الأبيض. يمنحه التفاحة مبكرا دون أى رصيد أو جدارة، وهو ما لم يحدث مع نحو نصف دزينة من رؤساء سوريا بعد الاستقلال، وحتى فى أوقات المواءمات الرمادية مع دمشق إبان عهدة الأسد الأب، أكان فى تلاقيه مع ملالى إيران ضد العراق خلال حرب الخليج الأولى، أو خدماته المباشرة بعد غزو الكويت بما تبعها من تلزيمه مهمة الوصاية على لبنان.
أمريكا المتوجسة دوما من الشركاء، تشطب تاريخ قائد جبهة النصرة بممحاة ثقيلة، وتتغاضى عن عداوته لها فى العراق، وسنواته الطويلة فى سجونها. وهى تتيقن من أنه مهما تحلى ظاهرا بالبراجماتية، لن يراها صديقا أو يُحيد مرجعيته الأصولية بشأنها. قد يُرجئها قليلا تحت ضغط الحاجة، لكنها ستظل أثمن أصوله المعروضة للتبادل فى صفقة التثبيت، والصالحة للإزعاج فى حال تعقد المسارات.
يتحلّى الجولانى بما يغيب عن حزب الله، وتفتقد حماس ما يملكه الطرفان. الأول قادر على ممارسة التقية أفضل ممن يعتنقها من واقع العقيدة والخلفية المذهبية، والأخيرة لا أصدقاء حقيقيين لديها من رحلة الماضى المتقلب من الممانعة البعثية إلى بديلتها الشيعية، وبينهما هواها الإخوانى مخلوطا بتأثيرات العثمانية الجديدة وبعض القوى الساعية سابقا لأدوار إقليمية من بوابة الحركات الأصولية.
كما أنها عاجزة عن بناء صداقات جديدة، ولو كانت هشة وسطحية كما يفعل الجولانى حاليا. ذلك أنها تخلط الأوراق وتطمع فى مزج الماء بالزيت، أكان بالتجارة في القضية تحت زعم الوطنية الصافية، أم بالتبعية لمشاريع متناقضة بين الأممية الإسلامية وإعادة إحياء الامبراطوريات البائدة، وكان مكوّنها الغالب عرقيا لا عقائديا من الأساس.
وليس غريبا أن أزمات الإقليم بكاملها تدور على محاور دينية. إسرائيل أبرز الذين يخلطون التاريخ بالجغرافيا، والقومية بالأيديولوجيا، لكنها طارئة على منطقة لطالما مارست اللعبة نفسها حتى أدمنتها.
وإذا كان جوهر الدين واحدا وصافيا كما يقول الأصوليون، وهو حق وإن من زاوية غير زاويتهم، فإن دين حماس الذى أورث غزة نكبة ثانية على طريق الحلم بالقدس وفلسطين الكاملة من النهر للبحر، لا يُطابق دين حزب الله الذى أخذ الدولة القائمة من الضياع إلى الضياع، ويضعها فى امتحان أصعب مما انتشلها أو يزعم أنه كان وراء انتشالها منه سابقا.
وكلاهما غير دين الجولانى الذى ولغ فى الدم الحرام من داخل الحظيرة نفسها، ولا يُقدّم إلى اليوم غير ما قدمه أسلافه الأسديّون والبعثيّون للقريب والبعيد، وإن كان بلُغةٍ مُغايرة وشعارات أكثر حيوية، من منطلق الحداثة الزمنية وطزاجة التجربة غالبا. لكن قمع المكونات ما يزال على حاله تقريبا، اللهم إلا استبدال الأغلبية السنية بالأقلية العلوية، أو إن شئنا الدقة فهو طيف بعينه من السنّة الذين لا حدود لتنوعاتهم واختلافاتهم البينية ومع الآخرين.
ثلاث صورٍ للأصولية الجارحة، ورابعتها فى إسرائيل. وكلها لا تختلف فى نظرتها لذاتها والآخر، إذ لطالما تصالحت على عداء وتخاصمت على مصلحة.
نتنياهو رسّخ تحالفًا ضمنيا مع حماس، والأخيرة انخرطت فى حرب سوريا الأهلية ضد الأسد، أى لصالح الجولانى بحصيلة النتائج، وحاكم دمشق اليوم يلعب دورًا أصيلاً فى حصار المُمانَعة وقطع خطوط الإمداد ولوجستيات الحزب، أى يتلاقى مع الاحتلال فى جانب وإن شذّ عنه فى آخر. وهكذا تبدو العلاقة بينها جميعًا، ذاتية مفرطة، وانتهازية بلا حدود.
تبدو الوقائع أخلاطا وفق التتابع السابق، وكأنّى أقع فيما آخذه عليهم، وأخلط كما يخلطون، لكنها فى الحقيقة كلها من طينة واحدة. كان الطوفان شرارة الاحتراق وصهر الخرائط الجيوسياسية المستقرّة ولو على قلقٍ وفوضى تكتونية لا تتوقف.
حرب الإسناد من جهة الحزب فتحت الطريق إلى خاصرة المُمانعة، ومنها انكسر الهلال الشيعى فى الشام، فسقط الأسد وصعد الجولانى وتمدّدت النار إلى طهران، وبأثر الاكتواء بما عاشت تكوى به الآخرين، انصرفت جزئيا عن كثير من الملفات، وتتحصّن وراء حدودها المُسيّجة بالنار والأزمات الاقتصادية والسياسية، ولم يتبقّ لها سوى رجالها فى ضاحية بيروت الجنوبية.
فإمّا حربا تهدم ما تبقَّى من لبنان، أو ينتصر منطق الدولة على الدويلة، وتنتهى فاعلية مشروع تصدير الثورة الإسلامية بعد أربعة عقود من الشراهة والاستئساد الغبىّ.
وحماس من موقعها الحالى، مُطالَبة بمُعايرة الحقائق على الأرض بنظرة كُليّة شاملة، وفى ضوء المُقدّمات وما أفضت إليه من نتائج مُعجّلة ومؤجّلة.
لا ظهير تحتمى به اليوم كما جرى بعد حروبها السابقة، وربما لا راغب فى الاستثمار فيها كما كان منذ النشأة مرورا بإفساد أوسلو وتطويق السلطة الوطنية بالكيد والمُزايدة. كان القطاع مُطوّقًا من خارجه، وعاد إلى عصمة الاحتلال، فكأنه صار عُرضة لاحتلالين مُتزامنين، وأقصى ما يُمكن إحرازه بموفور الأمل والجهاد السياسى، أن يعود لأقل من الوضع الذى غادره بإرادة فردية مُطلقة من السنوار.
وُضِعَت أهداف الحركة فوق الوطن، فكان الانقسام. وقدّمت مصالحها على السياق والحسابات العاقلة، فوقع ما وقع طوال السنتين الماضيتين. وهى مُخيّرة اليوم بين أن تتراجع قليلاً إلى الوراء وتُراهن على المجهول لها ولبيئتها، أو تظل على حالها وتُعجّل المعلوم والمُجرّب بكل حمولاته الوحشية السوداء.
وقد يظنّ البعض أننى أُحذّر من عودة الحرب، لكن تعليقها فى فضاء لمراوحات السائلة وغير المحسوبة أخطر، إذ لن تُضيف مزيدًا من أعباء الصورة واهتزاز المكانة على عاتق إسرائيل، وقد أوشك الرصيد على النفاد، ويبدو أن حماوة الضمير العالمى فى طريقها للانطفاء.
كما أنها لن تُعيد غزّة كاملة كما عهدها أهلها، ولن تستبقى للحركة مجالاً طبيعيا تمارس فيه أطماع السلطة، بل سيجعل منها حجر عثرة على طريق التعافى وإعادة الإعمار، ومن ثمّ آمال التلاقى ووصل المنقطع بين جناحى فلسطين فى الضفة والقطاع.
موضوع المقاتلين وراء الخط الأصفر لن يكون قنبلة تنسف الاتفاق، لكنه يجب أن يكون تجربة عملية للبحث فى نسف الخط نفسه. إنه لون الظرفية والحوادث العارضة، أمّا الأولويّة فللإشارة الخضراء كلما أمكن، وللخطوط الحُمر دائمًا.
المُوفَدون الأمريكيون قالوا إنَّ خروج مُقاتلى رفح سيكون مُحاكاةً استباقية لملف نزع السلاح أو تجميده لاحقًا، وعلى الحركة أن تجعله بداية للتوصُّل إلى تفاهمات لا تُعمّم الهزيمة على غزّة، وإن ترشَّحت مرارتها فى حَلق حماس وحدها، أو قبل المنافسين.
حَرّى بالحركة أن تطلب الخط وما وراءه من جغرافيا، بأكثر ممّا تطلُب آحاد المُسلّحين المحبوسين هناك. ولا يعنى ذلك القفز على أى روحٍ يُمكن إنقاذها، إنما يجب ألا يتقدّم الخاص على العام، ولا أن تتصدّر القبائلية ومنطق البيعة والموالاة، فيما يحتاج لمُقاربته وطنيًّا وعلى قاعدة المصالح المُرسَلة، وهى تقبل بالضرورة النزول عن القليل غير المضمون لأجل الكثير المأمول.
كان مُقرَّرًا أن تجتمع الفصائل بالقاهرة قبل أسبوع، وأُرجئ الموعد فى ضوء الخلافات البينية. السلطة تتمسّك بأن تكون الإدارة الانتقالية موصولة بها، ومرؤوسة من أحد وزرائها، والحماسيون لا يريدون تصريف ما يعدّونه رصيدًا أو مُتحصلاتٍ عن مُغامرة الطوفان فى خزائن عباس ومنظمة التحرير.
ربما يبدو الخلاف مفهومًا، لكنه كان يليق بمرحلة سابقة قبل تلك النكبة، وقبل أن تُصبح القوى السياسية كلها عبئًا على القضية، بدلا من أن تكون ظهيرًا ومُنافحا عن ثوابتها وأصولها الكُبرى.
يتعيّن أن تُبنَى فلسفة المرحلة على قاعدة عريضة، وأن تتعالَى أركانها بالتزامن مع تضحيات من كل الأطراف. يتوجّب أن تتصل لجنة التكنوقراط المُقترحة مع رام الله، لأجل أن يمتد غطاء الشرعية وتُعرَف مآلات الانتقال، وليس شرطا أن تكون تحت قيادتها المباشرة، حتى لا تُستَنفَر الفصائل الغزّية أو تبقى على تصلُّبها.
ولا يمنع الفصل الحاد بتلك الطريقة، من دراسة إصلاح السلطة الوطنية، ومن توسعة مظلة منظمة التحرير وانخراط حماس فيها مع غيرها من النافرين.
ما زال القطاع ردمًا على رؤوس ساكنيه، ومبتورًا بقسمة غير عادلة، ولا مصلحة مع كل التنازلات السابقة فى إدامة الوضع القائم، ولا بديل عن الدفع نحو النهايات المُبتغاة ولو تطلّبت مزيدًا من التضحيات.
كل ما يُمكن أن يُدفَع من الفصائل أقل ممّا سدده المدنيّون العُزّل، ومائتا مقاتل ليسوا أعلى من مليونى جائع شريد، وراية أى تنظيم لا يصح أبدا وتحت أى ظرف أن تعلو على راية الوطن.