ذلك الفرح الكبير الذي اجتاح المصريين جميعا مع افتتاح المتحف المصري الكبير تحول إلى حالة وجدانية أيقظت في قلوبنا مشاعر الانتماء العميق للجذور المصرية وبدا وكأن المصريون يلمسون مجددا ما صنعه أجدادهم من مجد وحضارة وفكر أشرق على الإنسانية دون أن تغيب شمسه يوما واحدا منذ آلاف السنين .
افتتاح المتحف المصرى الكبير

مجمع خلقدونية
ومن يطرحون هذا التصور يستقر في وجدانهم ( سراً أو علنا ) أن مصر تعرضت لعزو خارجي طمس حضارتها، وهو تصور أحمق إذ أن مصر كانت تحت رحمة دولة رومانية باطشة، اضطهدت أقباط مصر وحرمتهم من ممارسة الأرثوذكسية الحقة بعد مجمع خلقدونية، ومن يطرحون هذا التصور يجهلون أيضاً أن مصر في حقيقتها لم تكن يوما متلقية لحضارة، بل صانعة لها من الأساس ، فنحن لم نعرف العزلة أبداً وكأن كل الحضارات التي امتزجت معها مصر شكلت مكونها النهائي الذي ذابت فيه كل الثقافات مثل طبقات الأرض الأركيولوجية ، فصارت شخصيتنا المصرية انعكاسا لكل الطبقات الثقافية والحضارية التي عاشتها هذه الأرض .

كيميت
كلمة كيميت في الأصل لم تكن تعني عرقا ولا لونا، بل كانت تصف الأرض السوداء الخصبة التي يجري فيها النيل، رمز الحياة والبقاء، ومن هذه الأرض خرج أول تنظيم للدولة في التاريخ، وأول وعي للإنسان بقدرته على بناء حضارة، هذه الفكرة الجوهرية في تنظيم الحياة وإعمار الأرض لم تمت في الوجدان الخضاري المصري ، بل انتقلت من الفراعنة إلى اليونانيين والرومان ، ثم إلى الامتداد المسيحي مع الرسول مرقس ، ورغم أن المسيحية دخلت إلى مصر باليونانية تحولت كنيسة الأسكندرية إلى منارة للمسيحية وصانعة لمجدها اللاهوتي في الأرثوذكسية المصرية، يكفي أن تعرف أن قانون الإيمان المسيحي الذي ينطق به كل العالم في أقطار الأرض صاغه شماس مصري في الأسكندرية ووجبت طاعته في كل أقطار الأرض .

الفتح العربى
وحين جاء العرب إلى مصر في القرن السابع الميلادي، لم يهبطوا على أرض فارغة من الوعي، بل دخلوا حضارة ناضجة في لغتها وثقافتها وروحها، اللغة القبطية التي كانت آخر مراحل اللغة المصرية القديمة لم تختف فجأة، بل ذابت في العربية وأضافت إليها نغمتها وموسيقاها وروحها الخاصة، وهكذا لم تكن العروبة دخيلة على مصر، بل وجدت فيها رحما ولودا احتواها وطورها وأعطاها عمقها الإنساني، فمصر لم تكن يوما متلقية للعروبة، بل كانت صانعة لها، فمنها خرج الأزهر الذي نشر اللغة العربية في أصقاع الأرض، ومنها خرج عميد الأدب العربي طه حسين ، ومنها أشرقت نوبل على الرواية العربية مع نجيب محفوظ، ومنها خرج جمال عبد الناصر الذي أعاد صياغة معنى العروبة الحديث وجعل منها عقيدة راسخة ما بعد ثورة يوليو، ومن إذاعة القاهرة وأغاني المصريين وسينما مصر تشكل اللسان العربي المشترك ووعيه الثقافي والسياسي، العروبة في صورتها التي نعرفها اليوم مدينة للقاهرة، وليست القاهرة مدينة للعروبة .

الجامع الأزهر
من الخطأ إذن أن نضع الفراعنة والعرب في معادلة تناقض، فالتاريخ المصري نهر واحد متصل لا يعرف الفواصل بين منابعه ، من معابد الأقصر إلى مآذن القاهرة، ومن الجداريات الهيروغليفية إلى الخط العربي، ومن تحوت إله الحكمة عند المصريين ، إلى الإمام الشافعي والإمام الليث، ومن رمسيس الثاني إلى صلاح الدين الأيوبي وجمال عبد الناصر، كلها حلقات في سلسلة واحدة لا يمكن فصلها من المكون الإنساني والتاريخي المصري .

رمسيس الثانى
الذين يختلقون صراعا بين الفخر بالفرعونية والانتماء للعروبة لا يدركون أن مصر عبر تاريخها الطويل لم تعرف النقاء العرقي ولا الانغلاق الثقافي، قوتها كانت دائما في التنوع، وفي قدرتها على استيعاب كل من تعاقب عليها من حضارات وتحويله إلى جزء من روحها، المصري لا يشعر بالتناقض حين يقرأ الهيروغليفية أو يتلو الفاتحة، لأن الاثنين في وجدانه نابعان من معنى واحد، الإيمان بالخلود، والبحث عن العدل، والتعلق بالأرض، ولم يتوقف تأثير هذا المزيج الحضاري على العالم بأسره حتى اليوم، فالفرنسيون الذين جاؤوا إلى مصر غزاة عادوا بسحر الحضارة الفرعونية، في وقت كانت مصر تتحدث العربية وتعيش تحت سلطان المماليك، فكما كان الفراعنة صناع الفكر والعلوم والفنون، كان العرب صناع اللسان والروح والوحدة، وفي مصر وحدها اجتمع الاثنان وتزاوجا ليصنعا هذه الشخصية الفريدة التي لا تشبه سواها على وجه الأرض.
من يفهم مصر يفهم أن سرها في التراكم لا في القطيعة، وفي المزيج لا في النقاء، وفي الجمع لا في الفصل، هي ابنة النيل الذي لا يفرق بين روافده، بل يحملها جميعا إلى المصب، ولذلك سيبقى المصري عربيا في لسانه، فرعونيا في جذره، إنسانيا في رسالته، مصريا في كل حالاته، لأن مصر لم تكن يوما هوية تبحث عن تعريف، بل تعريفا لكل هوية تبحث عن أصلها ومعناها الإنساني .
وتبقى مصر دائماً من وراء القصد .